اخر الاخبار

العراق، بلد يضم بين جوانحه خمس حضارات، لعبت دوراً محوريا في تاريخ البشرية، بلد تكمن فيه تجارب لا تحصى في الكفاح من أجل التقدم والسير للأمام. معظم ما نراه اليوم يكاد يصَرِّح بعائديته لبلاد ما بين النهرين أو أن جذوره تمتد في تربته الثرية المليئة بالمبتكرات والإنجازات الملفتة للانتباه والتعجب.

تعداد المعاجز العراقية ليس مناسبا في هذه المقالة المخصصة لواحدة منها، ألا وهي الصحافة الشيوعية في العراق المتعدد الأعراق والمذاهب والأديان والفرق والشعائر.

عندما كان القرن العشرون يتهيأ للدخول تاركاً القرن التاسع عشر خلفه، كان العراق ومدنه المهمة مثل بغداد والبصرة والموصل وهن الولايات التي يتكون منها آنذاك، عبارة عن بلدات صغيرة ومتواضعة الإمكانيات، يتفشى فيها المرض والجهل والفقر المدقع وكثير من الناس يموت جوعاً، لا رعاية ولا اهتمام من السلطنة العثمانية التي كانت تعاني وقتها من فقدان هيبتها وقوتها ودورها المؤثر في الأحداث العالمية وتداري تدهورها المتسارع وتفكك سلطتها المترامية الأطراف. فإنتاج العراق الأساسي قبل إكتشاف البترول، هو إنتاج زراعي تجاري ورعوي بالدرجة الأولى، والصناعة حينها لا تتعدى ما تتطلبه السلطات العثمانية من احتياجات ولا تدخل ضمن مشروع متكامل يضم برنامج للتطوير والتقدم أو يمكن التعويل عليه لبناء بلد قادر على تسيير نفسه. ومع إنتهاء العقد الأول من القرن العشرين، بدأت المشاعر الوطنية تدخل دواوين البيوتات المتنفذة والفئات المتعلمة، فقد وصلت رياح التغيير وقسم من مباديء الثورة الفرنسية تغلغلت ضمن الأحاديث والكتابات أو القراءات. ومن جهات مختلفة ومتنوعة، من الشرق والغرب ومن الشخصيات الأجنبية والرحالة والمستشرقين والجواسيس والعاملين في القنصليات الأجنبية والصحافة والحوادث التي يصل صداها لنا، كما بدأت تأتينا الترجمات والدراسات المعنية بالقضية القومية والوطنية وتنتشر الأفكار التحررية والتقدمية كذلك.

وعند إكتمال العقد الثاني كان العراقيون قد تعرفوا من خلال أحداث الحرب العالمية على طيف واسع من الأفكار والمعتقدات. ورغم أن الطابع العام للتركيب الإجتماعي هو تركيب ريفي وزراعي إلى جانب بعض النشاط التجاري المحدود نسبياً فقد تبلور من خلال بعض الشخصيات والتجمعات وعياً أبعد من الرابط القومي والديني والمذهبي أو القبلي والعشائري، يمكن نعته بالوعي الوطني.

كانت أخبار ثورة أكتوبر في روسيا القيصرية قد وصلت إلى العراق وتفاعل معها حتى رجال الدين في النجف، ولما قامت ثورة العشرين كانت رسالة ثورة أكتوبر للثوار واضحة وهي الانعتاق من الاحتلال البريطاني الذي حل محل الاحتلال العثماني السابق. ولعب العديد من الشخصيات العراقية التي أطلعت على أدبيات ثورة أكتوبر وخاصة بعد فضحها لاتفاقية (سايكس – بيكو) التي قسمت الشرق العربي بين الفرنسيين والبريطانيين وبعد خذلان الحلفاء للشريف الحسين بن علي شريف مكة ولأولاده الذين تعاونوا مع البريطانيين لمحاربة الدولة العثمانية والتخلص من هيمنتها.

كان المجتمع العراقي وقتها ويتبع الكثير من المفاهيم الدينية إضافة للشعوذة والخزعبلات والأوهام والخرافات وتحدده القيم العشائرية والتقاليد القبلية والأعراف البدوية أضف إلى ذلك التعدد العرقي والديني والثقافي واللساني، وعندما فكر مجموعة من المثقفين العراقيين في إصدار مطبوع ماركسي، يدعو للنهوض ويناقش الأمور من زاوية جديدة وضمن منهج علمي وواقعي ملموس، كانت كل هذه المعوقات أمامهم. هذا لا يعني أن العراق كان عارياً تماما من بقية الأفكار الحديثة ذات الطابع البرجوازي بالذات. لكن أن تصدر صحيفة تتناول المواضيع والمشاكل الاجتماعية بمنظار طبقي وثوري، فإن هذا قد بدا وكأنه تفكير خارج الصندوق وغير مألوف وليس في أوانه.

كانت مجلة (الصحيفة)، التي أصدرها المحامي الأستاذ حسين الرحّال خريج ألمانيا وأحد شهود جمهورية فايمار عام 1919 ومصطفى على ومحمود أحمد السيد القاص المتنور ونجل رجل الدين أحمد السيد خطيب جامع الحيدرخانه، حيث كانت تقام فيه الاجتماعات السياسية والخطب الحماسية وتلقى فيه القصائد الوطنية للشعراء المطالبة بالحرية والانعتاق وتنطلق منه المظاهرات السياسية المطالبة بالاستقلال. هي المجلة الثورية او الشرارة الأولى التي رسخت القيم والأفكار اليسارية في التربة العراقية العطشى لكل ما هو جديد وثوري وتحرري. ولكنها لم تستمر مع أنها وسعت دائرة المثقفين الذين بدأوا بدراسة المعارف الماركسية وتطبيقها على ما يجري في المجتمع العراقي. فأصبحت المفاهيم والنعوت والألقاب التي ولدت في اوربا ومن خلال التناقضات هناك، تجد لها صدى لدينا، وتم توصيف الطبقات التي كانت ملامحها هلامية عندنا وغير واضحة المعالم، تتخذ أوصافا لا تناسبها، لكنها محاولة لرسم خارطة طريق لما يجب ان يكون عليه المجتمع العراقي بعد أن ادخلت بريطانيا له تقاليد ومفاهيم الدولة البرجوازية وربطت إقتصاده بالإقتصاد الرأسمالي.

لم تك لدينا طبقة عمال بالمعني البروليتاري الذي حدده ماركس وإنكلز في البيان الشيوعي وكتاباتهما اللاحقة، فالعامل العراقي هو خلطة من الفلاح والعشائري والحرفي، وكذلك الإقطاعي الذي تحول إلى مالك للأرض وتخلى عن مشيخته التي تمنحه سلطة معنوية أكثر منها مادية وبهذا انفصل عن عشيرته وبدأ يتردد على المدن ويتخلق بأخلاق ابنائها مع أن مدننا أيضا هي بلدات لم تصل بعد إلى مفهوم المدينة الكلاسيكي في الغرب. وهذا ينطبق على أغنياء هذه البلدات وتجارها، فلم يكونوا برجوازيين مثل ما هو الحال في أوربا، فهم عبارة عن تركيب مشوه من الأفندي والحرفي والتاجرو الشيخ الذي يمارس التجارة بطرق بدائية متخلفة، قياسا للتاجر الرأسمالي او البرجوازي الغربي.

كان كل شيء في العراق يسير وفق هذه العملية التي تمزج مختلف القيم والتقاليد والعادات والمفاهيم العلمية مع القيم الدينية و المثالية مع الواقعية والصراع فيما بينها في صعود ونزول وغير مستقر.

هل كان العراق آنذاك في حاجة إلى صحيفة ثورية ذات توجه ماركسي ومفاهيم مادية – علمية، بدلا من المفاهيم التي تجمعت داخل عقول الناس عموماً؟

بالنسبة لي، فالجواب هو نعم، لأن العراق وقتها كان يقف على منعطف خطر، قد يدفعه للخلف او يجعله يرتمي في أحضان المستعمر، فلم تكن الأفكار المطروحة آنذاك مقنعة ولا ناجعة للخروج من التخلف الذي تركته السلطنة العثمانية ولم يكن المستعمر معنيا بتطوير العراق إلا بما يساعده على تنفيذ خططه الخاصة به وليس بما يتعلق بحاجات الناس والبلاد نفسها. لكن تأسيس الحكم المحلي أو الوطني، يعتبر خطوة إلى الأمام والتي أُجْبِرَتْ بريطانيا عليها بسبب إندلاع ثورة العشرين في 30 حزيران من عام 1920، إلاّ ان الحكم لم يكن بيد العراقيين ولم يلب مطالب العديد من الشخصيات المؤثرة والتي طالبت بالجمهورية وليس الملكية، ورغم إنتهازية العديد منهم، لكن مطالبهم كانت مشروعة، ولم يتم اختيار الحاكم من أهل البلاد وعراقياً بل واحداً من أبناء الشريف حسين بن علي، كترضية له، بعد أن نكثوا بوعدهم بقيام دولة عربية تضم كامل الأرض التي كانت بحوزة السلطنة العثمانية آنذاك. لهذا فلم تكن الأهداف الأولى لثورة العشرين ولا أهداف ثورة الشريف حسين بن على قد تحققت، وبعد ان تم التفاهم مع معظم البيوتات العراقية المتنفذة والتي لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة وإشراكهم في الحكومات المتعاقبة، فلم تعد الشعارات التي رفعوها سابقا، ضمن اهتمامات الفئة الحاكمة والمسيطرة على أمور البلد فصار اهتمامها هو توثيق العلاقة من المحتل الجديد.

مع تقدم الحياة وسيرها حتى البطيء في هذا الجزء من العالم، بدأت تتشكل نواتات لظهور ملامح تقترب من ولادة طبقة جديدة لم يعهدها العراق سابقاً وخاصة في المؤسست الصناعية الكبرى، مثل الموانئ وسكك الحديد والمطارات وشركة الكهرباء والمصانع الصغيرة وبعض الحرف، التي أخذت تنتج منتجات أخرى يحتاجها المحتل والفئات المتنفذة الناشئة حديثاً.

لكن الأفكار الاشتراكية ومفاهيم الحرية والعدالة بدأت تتسرب إلى صفوف تلك التجمعات وبدأ النشاط النقابي بالظهور وحدث أكثر من إضراب ومظاهرة وإحتجاج.

أحيانا أقف مندهشاً ومستغرباً لتلك العقول العراقية التي غامرت وقررت ان تنشيء حركة ثورية بمقياس حزب عمالي ثوري، يتبنى الفكر الماركسي ويؤمن بالمفاهيم اللينينية في التنظيم في مجتمع مثل مجتمعنا ذاك. أي خيال وأي طموح دفعهم لذلك؟؟ ام ان الواقع أجبرهم على سلوك هذا الدرب بعد ان تبخرت كل الوعود من شعار " جئنا محررين لا فاتحين " الذي أطلقه الجنرال مود عند دخوله بغداد. وسؤال آخر يلح علي أيضاً هل كل هؤلاء الفتية كانوا يعرفون وعلى إطلاع مناسب للقيام بمثل هذه المهمة؟ أم انه حماس وعواطف ومزاج وطني، وغضب لما أصاب البلد من خراب فُرِضَ عليهم؟ وهناك سؤال أكثر إلحاحاً، هو هل ان معظم الذين فكروا بهذا الأمر كانوا من الكادحين والشغيلة المضطهدة، أم من مثقفي العراق الأوائل وأولاد البيوتات المدنية والمتعلمة تعليما يتعدى السائد من المعارف آنذاك فالذين حضروا مؤتمر تأسيس الحزب في 31 آذار عام 1934 كانوا 17 شخصا على التوالي:

1 – عاصم فليِّح – خياط.

2- قاسم حسن – خريج حقوق – كاتب في وزارة التربية والمالية.

3 – مهدي هاشم – معلم – معاون مدير محطة سكك.

4 – حسن عباس كرباس – محام.

5 – جميل توما - مهندس سكك حديد، خريد الجامعة الأمريكية في بيروت.

6 – نوري روفائيل– مدرس ومهندس في مديرية التسوية.

7 – يوسف إسماعيل البستاني– محام خريج القانون من باريس.

8 – زكي خيري– كاتب في الكمرك.

9 – يوسف متي– صحفي وتاجر صغير.

10 – عبد القادر إسماعيل البستاني– محام.

11 – يوسف سلمان يوسف– مستخدم.

12 – غالي زويِّد– خادم من خدم آل السعدون

13 – أحمد جمال الدين– محامي.

14 – عبد الحميد الخطيب– مدرس ثانوية.

15 – زكريا الياس دوكا– كاتب في الموانيء.

16 – سامي نادر مصطفى– معلم إبتدائية.

17 – عبد الوهاب محمود– محام.

من هنا أجد نفسي أقف منحنياً ورافعا قبعتي كما يقال تحية لهم ولدورهم التنويري البالغ الأهمية والحضور خلال مسيرة حركة شعبنا الوطنية المعقدة والشديدة الخطورة.

كان يوسف سلمان يوسف (فهد) أول ماركسي عراقي ينشر بياناً سياسياً قبل نهاية العقد الثالث من القرن العشرين وبتوقيع (شيوعي) ويزينه بصورة (المنجل والمطرقة). وهذا أول ظهور رسمي لهذه الكلمة في بيان سياسي موجه للناس. لإن مجلة الصحيفة كانت تكتب بمزاج ماركسي تنويري، لكنها لا تدعي الشيوعية او تدعو لها. فهي أقرب إلى مفاهيم كاوتسكي من مفاهيم لينين حول الحركة الثورية.

كان فهد من ضمن المجموعة التي نظمها عبد الحميد الخطيب في العراق ومن ضمنها كان زكريا الياس دوكا وغالي زويِّد وداود سلمان شقيق فهد. كان عبد الحميد الخطيب على ما يبدو أول عراقي يدرس في (الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق)، عام 1930، لكنه انقلب على قناعاته وتواصل مع السفارة البريطانية في موسكو وسلمها " الأكو والماكو " وأصبح مخبرا لها في الأوساط الماركسية العراقية، بعد عودته من الدراسة. أما فهد فقد غادر العراق بعد سفر الخطيب إلى موسكو، ليقوم بجولة كمراسل صحفي لجريدة (البلاد) لصاحبها روفائيل بطي، وإتصل بالعديد من شيوعي بلاد الشام، وتعمقت معارفه وحاول السفر إلى موسكو لكنه لم ينجح وعند عودته للعراق، كان ثاني ماركسي يذهب إلى موسكو هو الخياط عاصم فليِّح عام 1931، وعند عودته عام،1933 اخذ ينظم ويلتقي الحلقات التي تشكلت خلال هذه الفترة ومن ثم دعا لإجتماع عام لتشكيل الحزب السياسي للطبقة العاملة العراقية حيث توحدت تنظيمات البصرة والناصرية وبغداد في كيان واحد وأصبحت له قيادة موحدة، فصدرت جريدة (كفاح الشعب) في 31 من تموز من 1935، لكنها توقفت بعد خمسة أعداد بعد ان تم إلقاء القبض على القيادة وأكثر من 50 عضوا في التنظيم فتعطل نشاط الحركة مؤقتاً. ويظن ان لعبد الحميد الخطيب يد في ذلك لأنه عاد مع عودة عاصم فليِّح من الدراسة.

كانت قيادة الحزب الأولى تتكون من:

عاصم فليّح- سكرتيرا.

يوسف متي- مسؤول تنظيم بغداد.

مهدي هاشم– مسؤول تنظيم الديوانية والنجف.

زكي خيري– مسؤول البصرة والناصرية.

قاسم حسن- مسؤول العلاقات الأممية وقد حضر المؤتمر السابع للأممية الثالثة عام 1935.

بعد تعطيل صحيفة (كفاح الشعب) ظهرت (صحيفة الشرارة)، تيمناً بالشرارة البلشفية (الآيسكرا) وكان فهد من كتابها المبرزين، خاصة بعد عودته عام 1937- 1938 من دراسته في (الجامعة الشيوعية لكادحي شعوب الشرق) وبعد انتخابه سكرتيراً أولا للحزب وبعد أن تخلي سكرتير الحزب الأول عاصم فليِّح عن التنظيم وتركه للسياسة.

تميزت صحافة الحزب آنذاك بقضايا المجتمع الملتهبة والمطاليب الشعبية والتصدي لفساد الحكومات المتعاقبة على الحكم، إضافة لما يدور في العالم من أحداث متسارعة، خاصة مع بداية إندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ تكتلت " القوى الديمقراطية " ضد دول المحور وصار لزاماً ان تتوحد الجهود للوقوف في وجه النازية والفاشية.وكان شعار الجبهة الوطنية، الذي دعا إليه ديمتروف في إجتماع الأممية قد أصبح من اولويات الأحزاب الشيوعية التثقيفية، خاصة بعد انضمام الاتحاد السوفياتي إلى الحلفاء، بعد ما غزا هتلر الأراضي السوفياتية، فأصبح من شعارات الشيوعيين العراقيين الأساسية ولحد هذه اللحظة، إذ أدرك فهد منذ البداية أن الانفراد بالسلطة من قبل حزب واحد لا يجدي. ولهذا كان يثقف بضرورة دعم القوى الوطنية دون الإشتراط بالمساهمة في السلطة وبقي على هذا الموقف حتى إستشهاده في 14 شباط من عام 1949.

يمكن اعتبار جريدة (القاعدة) أكثر الصحف الشيوعية وضوحاً ومنهجيةً بعد ان استولى البعض من أعضاء اللجنة المركزية التي تشكلت غداة تفكك اللجنة المركزية الأولى على (صحيفة الشرارة) وبعد أن طالب بعضهم بإنتخاب سكرتير جديد للحزب بسبب سفر (فهد) لحضور المؤتمر الأممي التي أعلن انتهاء مهام (الأممية الثالثة) وترك الأحزاب في اتخاذ الأسلوب والمنهاج المناسب لها حسب ظروف بلدانها فلم تعد هناك حاجة إلى وصاية على الأحزاب.

في صحيفة (القاعدة) توضحت الرؤية أكثر وتبينت الخطوط الرئيسية لطرق النضال وأساليب الكفاح وظهرت الحاجة إلى منظمات رديفة للحزب تساند مطاليبه وتقف مع الشعب في قضاياه المشروعة وبدأ الحزب يعد العدة ويمهد المسرح من خلال صحيفة القاعدة والكراريس كي تلعب القوى الطلابية وجموع المتعلمين والجماهير الفلاحية والعمالية دورها الوطني من خلال تشكيل منظمات خاصة بها.

كانت صحافة الحزب ومساهمات رفاقه في الصحف الأخرى ذات التوجه الديمقراطي مثل ( صوت الأهالي ) و ( الزمان ) قد مهدت الأرض لظهورحركة جماهيرية ومهنية فاعلة، مثل، إتحاد الطلبة العام والجمعيات الفلاحية والنقابات العمالية وظهرت قيادات مناضلة من داخلها تتمتع بوعي طبقي ومهني ونقابي عالٍ. وكان (فهد) أحد أبرز مهندسي هذه اليقظة ومنظميها الكبار. ومع أنه قد أمسى في السجن بعد الضربة التي تلقاها الحزب عام 1947 فانه لم يفقد الصلة مع التنظيم وصارت تعاليمه وافكاره تصل إلى التنظيم باستمرار، مع كل خطوة يخطوها نضال الشعب وجماهيره الكادحة بالذات. وكانت الصحيفة هي المنظم والموجه للعمل بالنسبة للمناضلين والجماهير معاً.

كانت الصحافة الشيوعية ومواضيعها هي انعكاس لفهم الشيوعيين للأحداث وكذلك كمساحة للجدل والنقاش، خاصة في تبني المواقف التي تميل للحداثة والتثوير الثقافي والإبداعي، ولهذا ترى جمهرة من خيرة مثقفي ومبدعي شعبنا قد عبروا من خلالها نحو جماهير الشعب وتعرفوا على آخر ما توصلت إليه الثقافة التقدمية في العالم وكذلك لفضح المواقف المضرة التي تبرزها تيارات معادية للأفكار الإنسانية النبيلة في العالم، ولهذا فالصحافة الشيوعية في العراق لم تكن صحافة حزبية متزمتة ومنغلقة على نفسها، بل كانت واحة للعديد من الكتاب والفنانين والأدباء الذين لا تربطهم بالحزب او الفكر الماركسي صلة. فقامت الصحافة الشيوعية بالتعريف بهم وبنتاجاتهم وألقت الضوء على المعاني المتضمنة لهذه النتاجات، كما قامت بنقد الظواهر السلبية في ثقافتنا العراقية و للطروحات السياسية والفكرية والثقافية التي كانت قائمة في هذه الفترة أو تلك، وأيضا تأثرت هذه الصحافة بسياسات الحزب وتناقضاتها او إختلافها من حيث المواقف في هذه الفترة او تلك مما يجعل بعض الأحيان مصداقيتها مهزوزة، ولا تزال هذه الصحافة تفتقر لوجهة النظر الأخرى الموجودة داخل التنظيم و التي من الواجب إفساح المجال لها على صفحاتها، لأن ذلك يجعل الرأي والرأي الآخر يتحاوران بمصداقية ومسؤولية تعكس إحترام وجهات النظر المختلفة في هذه القضية او تلك وأظن أننا في الوقت الحاضر في حاجة ماسة جدا لمثل هذه النقلة، لما تمر به بلادنا من لحظات حرجة وخطيرة وغير مسبوقة وتتطلب كل الجهود في تفكيك الأزمة وإيجاد مخرج لها يجنب شعبنا وبلادنا مغامرات الحكام والقوى الغير مسؤولة والتي لا تهمها مصلحة الوطن والناس.

لقد تنبهت للصحافة الشيوعية مبكراً، وكنت اقوم مع صديق لي في المتوسطة هو حسين حسن السعودي، له العمر الطويل بإعادة كتابة مقالات معينة من صحيفة (اتحاد الشعب)، أيام ثورة تموز المجيدة وكانت من المشاكل التي واجهتني عندما وجد الأستاذ غالب الناهي مدرس اللغة العربية في متوسطتنا، نسخة مكتوبة منها في الصف إذ كنت معجبا بها، لأنها في طبعاتها الأولى قد ظهرت بورق أبيض ناصع يختلف عن ورق الصحف الأخرى. وكان هذا المدرس من أعضاء حزب البعث المعروفين وكان يشتم الزعيم عبد الكريم علنا بمناسبة وبدون مناسبة ولم يجد من يتصدى له، حيث كان مدير المتوسطة وقتها بعثياً كذلك وهو الأستاذ كامل خيرو التكريتي ولكنه كان لطيفا معي كوني رساما ومساهما فعالا في معارض الرسم للمتوسطة خلال المهرجان السنوي الذي تقيمه مديرية المعارف حينها. وبعد حدوث الإنقلاب الفاشي في 8 شباط عام 1963، كان أخي علي يأتي بنسخة من الجريدة مكتوبة بخط باليد ويقوم بنسخها مجددا على ورق الكاربون لتذهب إلى رفيق من رفاقه. إذ كثيرا ما كانت إجتماعات خليته تكون في بيتنا وكان ممن يحضر هذه الإجتماعت الفنان القدير الراحل حميد البصري طابت تربته.