اخر الاخبار

كنا نضربُ بالمباول على الحيطان، وعلى القضبان ونغني بصوت لنْ يُسعفه الألـم والجــوع أن يعلوَ أكثر مما هو عليه ، يرتفع النشيد الوطني ؛ أما (صمد) فلم يكن يملك طنجرة (إستبوال)؛ لذلك كان يضرب برأسهِ على القضبانِ ،يشهق وهـو يغنـي نشيـده ، يُغلـِق عينيـه بإصـرار ، حتى تلتقي غضون جبهته بتحد ،يَرسُم لوحةً، ويحلـُم بطائـر وجـل يحـوم فوق روابي وطن ، يردد بينما ترقص أنامل يده في الهواء مبسوطة على شكل طائر(طائر يحوم فوقنا في الزنزانة)، طائرٍ أسوَدٍ يَنْعَقُ .

بعـد كُـلِّ حفلـةِ غنـاءٍ ، كنا نهيئُ أنفسَنا لحفلةِ تعذيبٍ، حتى يَملَّ الجلادون من العقوبة الجماعيّة التي تَطالُ كُلَّ واحدٍ مِنَّا ؛ ولكنْ بنسبٍ. بعد الحفلة والإنهاك الذي يشمل الجميع ،السجنـاء والسجانين على حدٍ سواء ، أول من يكسر هذا الصمت(صمــد) إذ كـان يَرْسِـمُ في الهــواء جسـدَ حبيبتـه ، تميل الريشة المزعومة في الهـواء وهي ترسـم بدقـة خطوط النهد ،الناهد ،الشامِخِ ،المَجنون، حتى تنزِلُ بخشوعٍ عِندَ انعِطافِ القـَدَّ ( الخصـر الـذي أبـدعـه الخـالـق فأحسـنَ إبـداعــه) كـمــا كــان يــقــول ، وكطائـر مُـرتـاب تـُصفـِق جنـاحـا ريشتـه في الـهـواء ، فيصرخ : (هل تشمونَ عِطر البَنفسج عِطر حبيبتي )  ؟.

فجــأة تـُـرمـى الريشة بعيدا إثـر نوبـةٍ حادةٍ يضغط بيده اليسرى على صدره ،تبــرز الشراييــن ، يقـع فيهمـس بَعضُهم ( النوبة حادة هذه المرَّة) فنهرع نحن الخمسـة ، نتـوزع على كل الجهـات محاوليـن استحكام السيـطرة على جســده المُنتفض .

لكنــه يشــخر...يــردد التــرانيم ، ترانيم لا يعرف أحد مصدرَها ، أو اللغة التي يتحدثُ بها يزبد ثم فجأة يبدأ بالصراخ :

 ـــ أنا لمْ أعترِف ....أنا لمْ أعتــرِف....ولا حتى باسم واحد...صدقوني...والله لم أعترف ....كفاني نظراتكم  ، نظرات السخرية ، والاستهجان ، كفاني هذا الألم اليومي ....الجلاد أرحَمُ ...أرحم بكثير....البكاءُ بنشيجه المُر هو من يُنهي المَشهدَ، ويعودُ السلامُ صمتا مُريبا ،ثَقيلاً ..

بعــدها يبدأ الجسـد بالاستسلام إلى السكينة وبشكل مطلق ، يترك حتى تنزل الدمــاء مخلوطة بالزبد الكثيف من فمه .

نعـتمد على (المباول) مرَّة أخرى ، نداءات ضعيفة متوسلةٍ لأجل الاستغاثة، أي شيءٍ يُفيقه من هذه الغيبوبة اللعينة ، وهو ملقى كتمثال برونزي .

مــا أكثـر ما تستطيع أن تفعله بالمبولة المقرفة تلك والتي غدت إضافة لفوائدها المُعتادة وسيلة للاتصال ، وآلةً للغِناء ، ووسيلةً للدفاع تَقِيْكَ ضربات الأصدقاء غالبــا ، والأعــداء أحيانـا ، إضافة لكونها وسيلة لنقــل الرسائـل وبعض الأخبار السريَّة التي تَرِدُ من الأهل ، رغم كل هذه الاستحكامات .

فـقـط ضربـات قصيرة حادة ، ثم ينقرون نوطتين طويلتين رنانتين ثم ضربة قوية حاسمة، تمثل رسالة أو خبــرا سعيدا ، أو تحذيرا لدفعة تعذيب جديدة تنتـظر (ســلام الدرويش) أو (حمه محمود ) أو (صباح ) في القاووش الآخر، أكثرها خطـرا كـان عنـدما تعبر المبولة عن رغبة بالصراخ ، بالضجر ، رغبة تبدأ صغيـرةً لتُصبـِحَ دعـوة عامـة لصرخــة جماعيــة ظلت تختلج في الصدر حتى انطلقت وفلتت من بركانها .

كان ( جـواد عبـد الحـق ) يـُلحـِن قصائـده وهو يـدنـدن ضاربـا بقعـر المبــولة على الأرض بهدوء ، فهو يدندن لحن الحداء مُحرِّكا رأسَـهُ مُبتَسـِـمَا، وحالِمــا تتغير عنده النغمة يهمس مبتسما إنها ( البيــات) وهـذه ( السـي كـاه) وأحيانــا تنـفـجـر نوبـة مـن الجنـون، يتحطـم السـكون الثـقيـل، كنشيـج الموت، فترفع (المباول) عقائرها ، ضربات قوية كأنها صخور تتحطـــم فـوق بعضـها كالزلزال ، كأن الوتريات والنفخيات وبقيَّة الآلات قد انطلقت في نشيدها الأوركسترا لي ، هكــذا موجــــات متناغمـة من الكسر ، وشيئا فشيئا تتحول إلى نوبة هستيرية ، أو دعـوة للإضــراب ، أو للانتحار الجماعـي ، تعبيـرا عن حقدك ضد السلطة ، ضد القضبان ، ضد النواميس والحدود في لحظة اضطراب ، كنداء يعــلو ثُم يعـلــو ليصــل إلى كل الرابضيـن ــ لسبـب أو دون سبـب ــ كأســود مقهورة .

ينتهي المشهد فتتكور الدموع في العيون، تكبر ككرات ثلج (دافئـة) تكبر...ثم تكبـر....حتى تَصْبَـحُ كُـرةً من الجليد سُرعان ما تجمدُ الدموع المنهمرة ، فيعود الجميع إلى الصمت، إلى الخـرس الجمـاعي ، إلى شــوق أعمى كل إلى معبده الخاص إلى ذاته مهزوما وحيدا، ممزقا،مستعينا بالحلم.     

 لم يستطع (صمد) أن يمتلك قارورة (إستبوال) كبقيـَّةِ خلـق الله ، ولـم يستـطع أن يكون أحد أفراد ظاهرة المباول في هذا السجن، الـذي أستحدثه رئيـس السجن بعد أن طاب له الحفاظ على المبالغ التي صـرفت مـن أجـل استحداث مرافـقٍ وحماماتٍ للسُجناء كمجاملة للجان حقوق الإنسان الأجنبية.

أتلفــت قارورة (صمد) والتي وقع على استلامِها ، من قِبَلْ أحد رفاقهِ القدماء، كونُهُ ووِفقاً لادعاء الأخير  بأنه قد تخاذل وأعترَفَ، لذلك كان عليه أن يتحمل الحيــاة بـلا قـارورة ولهـذا تحمل ولخمس سنوات وهو يردد تحت تأثير نوبات الهستيريا من أنه (لم يعتـرف.....لـم يعتـرف على أحد ) ولم ينل ثقة بعض رفاقه إلا في نوبتـه الأخيـرة ، عندمـا أصبـح مستغنيا عن نعمة المبولة ، حيث صمت أخيـرا ، وبجانبه قطعة الخشب التي كانت جُزءا من عصا تنظيف دورةِ المياهِ والتـي صــارت ريشتـُهُ التي حـُرِّم منها ، فصار يرسمُ في الهواء لوحاته التي نالـت إعجـاب الجميـع وبـلا استثناء، وبجانبه مبولته الموقرة التي لم يتعرف عليها، ولم تجمعهما خلوة شرعية !

كانـت تلك أكبـر حفلـةٍ تقـوم بها المباولُ، محاولة التشييع والعزاء تحوَّلَ إلى صـراخٍ ضــد الســلطة ، رغبةٍ بالموت الجماعي ، قرفٍ أصبح يرتفع ليصبح حــربا ، استمرت لثــلاثـة أيام، أودت بحياة خمسين سجينا ، إما تحت التعذيب وبإطلاقة رصاص لحـظة غضـب بعد سب السلطة المقدسة! أو موتا في زاوية الزنزانة رفضا مطلقا لحياة كهذه ....

***

منـذ أكثــر من سنتيـن، بخطاه الوئيدة، بسبب آثار التعذيب ، والروماتزم ، والصعقـات الكهربائيــة ، و(الجلطـة) يتجهُ ( جَواد عبد الحق ) كُلَّ مَساءٍ إلى مبنى السِجــن المــركزي الذي هدمته الطائرات((طائرات الاحتلال الأمريكي))!، يصنعُ لِنَفسهِ مَقعدا من بُقايا الآجُر ، ويتكئ على الحائط ، تغزوه الذكريات، هنــا سقط (صمد) هنــا بكى لأول مـرة في العـلــن ، سقطت دموعه على وجنتي (صمد)، الوجه الباهت ، الأصـفـر، المعـصـور، الجامـد، الميِّـت ، وكأن دموعـه قـد أوحـت للآخرين وزادتهم من معين عيونهم من دمع أفرغوه على جثمان (صمد).

هنـــا لحن أغنيتهُ التي لم يغنها أحد سوى السجناء ، في تلك الزاوية كان يترك رأسه على الحائط في السجن الانفرادي ، ويتصور أن شخصا آخر يضع رأسه في الموضـع نفسه ،  فيتبـادل مـعـه الأحاديث واصفا له وجه أمهِ، وكيفَ كانتْ تخبئُ المناشير تحت ملابسها ، وكيف تشعرُ بالزهو وهي تحكي لهم مغامراتها مع رجال الأمن .

هنــا صفعه ضابط الأمن ذو الفــــم الأدرَد، هنــا سقط (الدرويش) وهو يرفع رأسه، إذ كان يقول : ( خلق العراقي ليرفع رأسه عاليــا ، خلق ليكون حرا...).

يرفع ( جواد عبد الحق ) رأسه عاليــا ، في سجن لا سقف له ولا قضبان ، فقط حفنــة ذكريــات يحــاول أن يستمـد العـزم مـن رفاقه ليعيد الحركة لأنامله التي خشبتها (الجلطة) يدندن مع نفسه ويرسم صورة العـود ، محاولا تلحين أنشودة للعراق الجديد..