مذ أول انطلاق الصحافة كانت أداة للتعبير عما يجول في بيئة اليوم العادي وتفاصيله. حتى صارت تنقسم بين صحافة تتبنى هموم الإنسان وأخرى معنية بمشاغلته بقشور وشكلانيات جزئية من نهج استغلاله والتعبير عمن يستغله لمآربه الخاصة. فأما تلك التي عبَّرت عن الإنسان وما يجابهه من صراعات بمختلف أشكالها الاستغلالية وعنف محاولاتها في مصادرة الحقوق والحريات؛ فإنها لم تكن إلا صحافة اليسار بوصفها المنصة التي تمتلك المصداقية والسلامة المهنية عبر تمسكها بمبادئ وجود الصحافة ومغازيها ونزاهة الاشتغال والتعبير عن الإنسان..
إن تلكم الصلات الوطيدة وتبني صحافة اليسار للإنسان المسحوق وتحديها أدوات استغلاله، أوجدت مناخا احتفاليا وطقسيا بين جمهور الناس من الأغلبية بخاصة هنا من الطبقات الفقيرة التي تمت مصادرة خيراتها وجاء هذا ليتحول بطقوس اليوم العادي إلى فضاء جذبت فيه تلك الصحافة جمهورها الواسع نحو القراءة والثقافة ومنطق الكشف عن المستور والمخفي بقصد عن أعين الكادحات والكادحين.. وطبعا كان هذا انتقالا إلى فضاء ربط بين طقسيات العيش من جهة ومنطق العقل الذي يمكنه أن يحقق الآمال والتطلعات وصحافة اليسار لا تأتي بالأمور الجاهزة بما يلفق الحلول بل تأتي ومعها إعمال التفكير واستثمار العقل ومعارفه العلمية للتوصل إلى الحل..
هذا الأساس هو ما وفَّر فرصة التوجه لخيار عيد الصحافة اليسارية في العراق والعالم ومعروف نموذج عيد الإنسانية (اللومانيتيه) في باريس الذي يؤمه ملايين الزوار في أيامه الثلاثة ويحتفلون بالعيد ليس مجرد طقسيات عابرة بل في منجز نوعي يهتم بمنجز العقل وسلامة النهج في التعاطي مع تفاصيل مجريات الصراعات كافة..
وإذا كان مهرجان اللومانيتيه السنوي بحجمه الكبير وعلامته المشهودة قد تضامن على سبيل المثال مع قضايا شرق أوسطية عربية كما القضية الفلسطينية وكما قضايا المرأة والعدالة الاجتماعية وغيرها من أمور فإن صحافة اليسار العراقي أولى بأن تحتضن احتفالياتها وهي الأعرق بين الصحف الصادرة في العراق ومازالت تصدر حية مقروءة تتلقفها أيادي الجماهير وتطالعها الأبصار والبصائر بنهم وشوق..
ومذ كنت من بين دعاة إقامة مهرجان صحافة اليسار بوصفها صحافة حية محبوبة مقروءة ومازالت تعبر بمبدئية ونزاهة وسلامة مهنية وحتى إقامة احتفالياتها السنوية أكدتُ وأؤكد اليوم على تقديم الاحتفالية بالطريقة الأنسب وأوضاع الناس ومستهدفاتهم ووسائل عيشهم وتفاصيل اليوم العادي لكل منهم.. ولعل قراءة استطلاعات الرأي في أثناء الدورات السنوية يظل نهجا للكشف عن مطالب الجمهور الواسع لمرتادي مهرجان صحافة اليسار وعيدها الذي لا يقف عند أعتاب الشأن الصحفي حصريا بل يمتد لخلق منصة الفرح والمسرة انتصارا للأنسنة مرة ولقيم الأسمى في مرات أخرى بما يتيح للمشاركات والمشاركين التعبير عما يجول في الصدور والأذهان من أحلام وتطلعات مما لم يتمكنوا يوما من البوح به في كنف مناسبات أخرى..
ها هي أعياد الصحافة اليسارية في العراق تجمع الصحافة العراقية بعامة في ميادينها وهي تضم مبدعات ومبدعين بمختلف ضروب الفنون والآداب والصناعات الشعبية والتراث وإبراز مسابقات ثقافية وأخرى جماهيرية وتلك المعنية بالطفل والمرأة والعائلة وتعزيز التماسك الاجتماعي واستعادة تلك العلاقات الحية بين أبناء البلد وخلق فضاء للتسامح والإخاء وفرص إبداع وإنجاز وتعبير مفتوحة الأفق..
إن هيد الصحافة اليسارية وفي الجوهر الصحافة الشيوعية التي أشرت الانطلاقة الأولى بولادة أول صحيفة يسارية في نعاية تموز 1935 أي قبل تسعين عاما أو تسعة عقود من الشدائد والمطاردة والمقاصل لكنها ماتزال تواصل الدرب ومسيرة تحتفل بقرائها مثلما محرراتها ومحرريها من المكافحين للتعبير عن قضايا الناس والوطن..
إذن العيد في نسخته هذا العام يجدد اللقاء بجمهوره ليس بكون الصحافة تحتفل وتنظم المهرجان بل بكون الجمهور هو بالتحديد من يحتفل ويتمسك بأسس التنظيم والاحتفال برائع منجز كاتبات الصحافة اليسارية وكتّابه ممن يضحي بالغالي والنفيس ليقدم الأنجح والأنجع في عرض رسائل الشعب وأحلامه وتطلعاته بسلامة ودقة وموضوعية.. أن حجم الجمهور الكبير يؤكد طابع العيد كونه عيدا شعبيا وروحانية تنتمي للناس للبسطاء للفقراء للمتطلعين للتحرر والانعتاق والقابضين على الجمر ليبرهنوا أن عيدا شعبيا بهذا الحجم إنما ينمو ويكبر مع كل عام ليأتي بحركة جماهيرية للفرح والمسرة وصنع أفضل تعبير عن القيم الروحية والأخلاقية الأسمى للناس للشعب ولحراكهم الذي يجمع بين القيمي العاطفي الانفعالي وجمالياته الروحية وبين العقل ونهجه وأساليبه الموضوعية..
هذا هو العيد الذي يستدعي في ممارساته وقيمه أعياد الحضارة السومرية التي كانت تعبيرا عن قيم العمل والإنتاج مثلما عن القيم الروحية لمثل تلك المنجزات للتمدن والتحضر وتهذيب الإنسان وسلوكه وقيمه. إنها تستدعي تاريخنا في رفض السكونية والجمود والتكلس وولوج الحيوية إذ البركة بالحركة وفتح آفاق جديد المعاني باحتفالاتنا التي لا تبكي الأطلال ولكنها تسمو بمنح الحيوية فعليا وجودها عبر منطق الفرح والمسرة..
فليفرح الشعب بصحافته التي عبرت عنه لكن أيضا بعيده الذي يحتفل بها بوصفه عيدا للفرح ومناسبة للمسرة ممتلئة بالمعاني والقيم والخصال الأسمى والأرقى..
مباركة أيام الاحتفالية والعيد ومباركة أنشطة العيد بكل تفاصيلها الجمالية والمضمونية.. مباركة ملتقيات أوسع جمهور بعيد يجمع أعياد الوطن والناس ليضعها بمنصة الاحتفال وبك، وبكم معا وسويا يكون الاحتفال بعيد صحافة اليسار بوصفه ثقافة تنوير الأفئدة والعقول، ثقافة جديدة وطريقا للشعب يمضي بمحمولات أعياده تلك المحمولات الفلسفية الفكرية منها والجمالية العاطفية الروحية أيضا..
وكل عام ومثقفينا بثقافة النخبة والجهد العقلي العلمي الأكاديمي وبثقافة شعبية تنتمي لسلوك الناس وقيمهم وأداءاتهم وهي ببساطتها الأعمق في تقديم السهل الممتنع والبسيط بالتركيبة الأعمق والأروع لمعاني العيد والاحتفال..
ونلتقي معا في رأس تموز البابلي أو ديموزي السومري مجددين العهد بتحويل مسيرة زمننا لأعياد فرح ومسرة بلى نلتقيكم جموعا بهية تعبر عن هويتها وقيمها ومبادئها وسمو تطلعاتها وتمسكها بعيد هو عيدها.. وجائزتكم أنتن وأنتم جمهور المهرجان العيد هي الجائزة الأعلى والأبهى والأسمى
بتموز الأعياد الخالدة منذ سومر مرورا بيومنا يليق الافتخار والبهاء عيدكم الأسعد والأبهى.