اخر الاخبار

يعّد القاص والروائي لؤي حمزة عباس من الكتّاب الخارجين عن ظلال القص الستيني العراقي والذين أفصحت قصصهم وتجاربهم الفنية عن تدشين شكل جديد لقصة ما بعد الستينيات إذ تحاول هذه القصة الجديدة، ان تزحزح أعباءً فنية متراكمة، وتنتقل بالنص القصصي والروائي من المحيط المرجعي غير المباشر لمؤسسة السلطة الى قاعدة المجتمع والفضاء الاجتماعي المباشر، ومن الإطار الأيديولوجي الضيق الى البعد الانساني العام.

 ولعل تدشين شكل جديد للقص الخارج عن الظلال السائدة، لا يبدو كقطع تقني فاصل بين زمنين، ولن يُصبّح جاهزاً للبحث ما لم يقتض الانفتاح على مرجعيات جديدة لإغناء النص القصصي ويمر بمحاولات تقصي اتجاهات عامة وتقفٍ لآثار بعيدة أو قريبة فضلاً عن تجريب أفكار وموضوعات سردية وتقنية جديدة هدفها ترسيخ النوع الفني بعيداً عن ظلاله المؤسساتية السابقة.

وكانت أرض المحاولات الفنية تلك واسعة ومبكرة، وتحتوي على الكثير من الحاجة الى الاستصلاح والتأصيل، على سبيل المثال، كانت الصورة الرافدينية المتخيلة على العموم في النص القصصي الستيني هي المصدر المرجعي المباشر لصورتها طبق الأصل في الرؤية التنقيبية الاستشراقية، فيما أنشأت قصة ورواية ما بعد الستينيات صورة متخيلة مفارقة، تستتبّع، وتمزج بين اركيولوجيا الاستشراق والاثر المحلي في الوقت الحاضر.

على هذا الأساس من استصلاح الأرض الواسعة عبر المحاولات الفنية الجديدة، كتب لؤي نصه ودراسته منذ مجموعته القصصية " على دراجة في الليل"1997، وحتى كتابه " إنقاذ اللغة من الغرق"2014 ليواصل تكريس النوع الفني في فضائه الأصل ومحيطه المرجعي الأول فأنشأ مرجعيات متعددة وعتبات نصية مبتكرة واستعارات مستحدثة لا سابق لها مجتمعةً من التراث الإنساني مثل "كتاب قصصي" و"طفولات قصصية" و"رواية تعرّف"، وتقفى آثاراً بعيدة وقريبة مسترشداً بمرجعيات الكتابة الجديدة التي يُعيد تبويبها وتعريفها فيكتب.

يطرح القاص حمزة بما يمكن ان نسمّيه فينومينولوجيا الكتابة كما في كتابه "إنقاذ اللغة من الغرق" من خلال الاحتفاء بالغائب، "الماضي" الذي يترك أثره في الحاضر، يقول " كل كتابة ثمة غائب يحتفى به، ويعاد تشكيل المشهد بما يتركه من أثر وما يخلفه من ظل ليضاء حضوره لحظة الكتابة نفسها" ومع ذلك فان الكتابة لا تبحث عن المستعاد الغائب فقط والذي يخلف أثراً إنما يرى" تحاول الكتابة دائماً استعادة ما يصعب استعادته".

ان ما يصعب استعادته في الكتابة، هو نفسه ما يصعب تذكره من النسيان، أو ما يمكّن من إنقاذ الذاكرة الناجية من الغرق في بحر النسيان، والقاص لؤي حمزة عباس في فينومينولوجيا الكتابة وبالرغم من أنه اقتبس عبارة غادامير بان" التذكر ليس له تاريخ، ثمة نسيان مستمر" إلا إنه يتواصل بغنى أكثر مع فينومينولوجيا الذاكرة لدى بول ريكور عبر العلاقة الجدلية بين الزمان والسرد، والحضور والغياب، والأثر.

ومن المهم ان نوضح شيئاً موجزاً عن فينومينولوجيا الذاكرة وانطولوجيا القدرات كما هي عند بول ريكور، ومن ثم نعود الى ذاكرة الكتابة الناجية كما هي عند حمزة عباس.

من بين الميزات الأساسية في كتاب "الذاكرة.. التاريخ.. النسيان" لبول ريكور كما يذكّر، هي أنه جاء تكملة سردية ملحقة ومستوفية لمستوى فينومينولوجيا الذاكرة الذي لم يناقشه مفصلاً في كتابيه "الزمان والسرد" و"الذات عينها كآخر"، فهذا الكتاب وعبر فن قدرات الذاكرة، يسد ثغرة إشكالية، تشكّل مستوى وسطياً بين الزمان والسرد، وتبحث في " امبراطورية النسيان المحفورة تحت اقدام الذاكرة والتاريخ".

ولعل قدرة السرد ضمن "انطولوجيا الانسان القادر" لدى ريكور، تتكون في هذا المستوى بوصفها إعادة تعلّم للمنسي أو كما يستشهد بالقديس أوغسطين بأن "البحث عن الذكرى هو النضال ضد النسيان".

و"انطولوجيا الانسان القادر"، هي إضافة رؤيوية، اضطلع بها ريكور" أنا قادر إذن أنا موجود" مقابل الكوجيتو الديكارتي المعروف، فقدرة السرد هنا، ما يمليه فن التذكر عبر تمثيل الغائب وفقاً للمسافة الزمنية "ديالكتيك الحضور والاشارة السببية للغياب" أو إثبات العلاقة بين الدلالة الفينومينولوجية للصورة – الذكرى وبين مادية الأثر اللغوي الذي يغدو كاستعارة مثل الرسم في لوحة، بمعنى ان فينومينولوجيا الذاكرة بوصفها قدرة سردية، تصبح أحد مستويات النص السردي والقصصي تتوسط الزمان والسرد.

في هذا السياق من تقنية فن الذاكرة، أو "ما يسميه ريكور خطوط سير التذكر بين عدد من الذاكرات منها المعاقة والمأمورة والمتلاعب بها وغيرها" استخدم القاص والكاتب لؤي حمزة عباس على نحو ابتكاري خطوط سير التذكر في كتابه " إنقاذ اللغة من الغرق"، بما يُشبه الذاكرة الناجية وأعاد تعلّم ومخاطبة هذه الموضوعة بشكل مباشر، قائم على الذاكرة التي تبحر في أعماق النسيان والوقائع المنسيّة، وتستطيع في النهاية أن تبقي أثراً أو صورة مثل "بصمة خاتم على الشمع" واستعارة مثل " الرسم في لوحة" أو مثلما " ديك في قارب وسط مياه لامتناهية".

ينزل الكاتب حمزة عباس مع فكرته في نهر كتابته مثل نجمة ريكور المرشدة، لن يغرق أو يموت إنما يمثل ديمومة واستمرار الوجود" الذاكرة" في ديالكتيك الحضور والغياب الذي يجعل من الماضي حقيقة حيّة، ينتدب فيه جندياً قديماً، يستيقظ دوماً من موته مع أي حرب جديدة، ويواصل قتاله وأثره الكتابي الجديد، الجندي ذو العشرين عاماً الذي قتل في القرن الرابع قبل الميلاد في موقعة ايسوس الكبرى، هو نفسه العائد من أثره الكتابي ليحيا ويتذكر كيف عاش حرباً أخرى في واقعة نيو أوليانز في العام 1812 ثم غدا مقاتلاً اميركياً في القرن الماضي مثلما هو قتيل حرب العصابات في الكونغو واسير الفيت كونج، وهو نفسه جندي الهون الذي شهد بناء سور الصين العظيم حجراً حجراً لكي لا يخترقه.

جاء عنوان أحد فصول الكتاب، "كل حرب هي حكاية عابرة" ولكن لكل حرب ذاكرة حكائية وسردية وواحدة ومتصلة كما يبتكرها لؤي، بإمكانها ردم الفجوات وتوحيد ووصل المسافات الزمنية وتفترض ان الكون تبعاً لما يقول ريكور، "يهلك ويولد من جديد بأعجوبة يقينية، تمد الى مجموع أحوال العالم هذا البقاء المستقل والشامل للماضي".

دائماً، يستيقظ هذا الجندي مثل " طيف عابر" في سجل الوقائع ولكنه في ذاكرة الكتابة، يتحول الى جوهر، ويترك أثره من حرب الى أخرى ومن زمان لآخر، ويسلّم دليله تواصلاً مع فينومينولوجيا التذكّر التي تنشئ نصاً جديداً أصله ذاكرة كتابية فينومينولوجية، "يمكنك أن تراه، يستلقي على الرمال بثيابه الكاملة، عيناه مفتوحتان، عظمتا وجنتيه بارزتان، يمسحهما ضوء آخر النهار، خوذته مائلة قليلاً وقد التف حزامها على الرقبة، كأنه يواصل الانصات، لامع العينين لنفير بوق الحرب النحاسي البعيد".

بذلك، تغدو فينومينولوجيا الذاكرة بحثاً في إعادة المنسي والصعب من الماضي فيما تتشكل فينومينولوجيا الكتابة من استجماع الجزئي والمتشظّي، واستجماع أثر صيحة حرب أو نفير بوق باتجاه صورة كلية جديدة لذاكرة ناجية.