اعتدنا أن نقرأ في أزماننا المحدّدة بسمتٍ أيديولوجيّ عمودي فوق الرؤوس، نوعين من الكتابة المقالية والسردية، لا فرجة/ فسحة بينهما لنوع "بينيّ" يزحزح الحدود، ويكسر السّمت الراكز كرمح بيدٍ مشدودة، وعصاب مكفهّر، على السطر المتصلب للخطاب النوعي- المحدود. نوعان إيديولوجيان متسلّطان يصطبغان باتجاهات اللحظة التاريخية الحرجة، لحظة الغروب، أو السقوط، لقيم حافظت على نقطتها الحتمية في نهاية السطور، بلا تزحزح أو امتثال. ومع مرور الأزمان الكارثية وطعن الأجواء برماح الحرب المشتعلة، حما سمتُ العُصاب الأيديولوجي وشهقَ عالياً أمام نصوص "البيْن" يمنع انبثاقَها من تحت الركام، وابتعادَها عن تسلّط النقطة الحتمي على نهايات الجمل، ونضارة البنيات البينيّة النامية كزهرات اللوتس في مستنقع الدّمن الراكد.
مثال ذلك "البيْن" اللا حتمي: رواية ١٩٨٤، التي صدرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما شقّت طريقها بين رايات الانتصار الستاليني المظفّر على النازية، والمكارثية المنتشية بحملتها على الشيوعية. اخترع جورج أورويل نوعاً روائياً بينيّاً، أنموذجاً مركباً من رأس اشتراكيّ وجسد بوليسيّ وروح شمولية ومسخ فرديّ سوبرمانيّ. وفسَحَت الرواية بذلك لاختراعات فاقت السوريالية والمستقبلية العلمية بنبوءتها ونفحاتها "اللوتوسية" على سطح المستنقع الرأسمالي والمزرعة الحيوانية العالمية. كانت النذيرَ لهدم سلطة أقوى واقعيّتين روائيّتين: اشتراكية وطبيعية. وفي الفسحة البينيّة تلك توالت روايات أخرى لاحتلال موقعها المتفرّد والمتجدّد (عراة وموتى، الملاك الصامت، الطبل الصفيح، العشب يغنّي، سيد الذباب، دكتور زيفاجو، دروب الحرية، اللص والكلاب، خمسة أصوات، المهزومون).
كانت خمسينيّات القرن الماضي قد شهدت أيضاً مقالات في غاية التفرّد والتزحزح من هيمنة النقطة المركزية المشدَّدة. ظهرت للوجود مقالات ثيودور أدورنو وحنه أرندت وفالتر بنجامين ويورغن هابرماس وفيلهلم رايش وإرنست بلوخ وإيرك فروم وهيربرت ماركوز وكولن ولسون وريجيس دوبريه، لتقطع السّمت الفلسفيّ المطلق والفكر الاجتماعي المتزمّت بتنويرات وتجارب ذاتية، حرّة وبينيّة مبهجة. بلا شكّ فإنّ إنتاج العالم التنويريّ الآخر مكّن الكتّابَ العرب في تلك الفترة الحرجة، فترة التحرر من الوعي الاستعماري، من استلهام تجارب مماثلة نحو تمهيد فسحاتٍ بين نوعين أيديولوجيّين غالبيْن، فرويديّ وماركسيّ- لينينيّ، كانا قد زحفا وأقاما ما يشبه ترس السلحفاة- التشبيه الموازي للوعي الليبراليّ المتعالي، والوعي المحبوس خلف ستار حديديّ، معاً. انتهى هذا الفصل بكوارث حروب متوالية في الشرق الأوسط، ورُدِمت الفسحة البينيّة من جديد بستار ناريّ وتنبؤات يائسة، ركّزت تسلطَ النقطة في قلب فسحة التنوير العربية (فسحات: حسين مروة، عبد الله العروي، صادق العظم، محمود العالم).
تقلّصت الفسحة التنويرية- البيْنيّة إلى أقصى حدّ، مع انزياح الأنظمة العربية الشمولية، وزحفَت الجدران الأصولية لتحتلّ مواقع الحدود القديمة للسّمت الأيديولوجي- بنوعيه: القومي واليساريّ. أصبح الاقتراب من نقطة المركز القديمة محفوفاً بمخاطر التهوين والتسقيط والتكفير. وبموازاة ذلك تطوّرت وسائط النشر والاتصال، ونجحت في نقل المراكز والسلطات، إلا أن الوسائط الإلكترونية المتطوّرة عجزت عن إخفاء شبح "الأخ الأكبر" الذي شرعَ يلوح في الخلفيات المستورة بأقنعة كثيرة مجمَّلة؛ بل زاد هذا الفضاء من خطورة السقوط في شبكة عالمية يجهل روّاد النصّ البيْنيّ حجمَ رقابتها. ما عاد البوح بفسحة شخصية/ موقع إلكترونيّ أو مدوَّنة شخصية مضموناً وآمناً. ثمّة مَن يتربّص بالرأي "البيْنيّ" ونافذته/ رابطه الافتراضيّ عبر جدران فضاء يضيق شيئاً فشيئاً كستارة خفيّة، ولا أخفي إعجابي المتأخّر بمقالات ميلان كونديرا وهيرتا موللر، وعنوان أحد كتب مقالات الأول يحمل عنوان: الستارة، وعنوان مقالات الكاتبة الثانية هو: الملك ينحني ليقتل- والعنوانان يرمزان إلى كواليس العصر وومؤامراته. مهما يكن، فالعنوانان المختاران هذان، يهوّنان من جرأة شقّ النمط الثنائي/ القطبي لمركز العالم القديم، وتحدّي الرقابة المشدَّدة للنقطة في نمط المركز الفضائي الجديد: تأسيس فسحةٍ مهما صغُرت/ شطَّت عن سمتِها المقنَّن بجدران وهمية، يدعو للبهجة المؤقتة/ المكتفية باستنارتِها.
إنّ كتابة "الفسحة" بينما تشقّ لها سبيلاً بين محدِّدَيْن حتميّين- إيديولوجيَّيْن، لحظويَّيْن- إنما تذخر لها امتداداً نصياً تحيا به في كلّ حين، وفي كل مكان. وحين يغدو تفتّقها مصحوباً بلفح الهجير الرقميّ ومخاطر كواليسه المستورة، تصبح الفسحة البيْنيّة واحة خضراء في صحراء مَخوفة، أو محطة استبدال رئيسة في وسائل الإنتاج الأدبي والفكري، وأنواعه التاريخية. ومهما ابتعدنا عن نقطتنا المحلية- الراكزة في اللغة والتراث والمعيار الأخلاقي والإيديولوجي، فقد دنا البرق الذي يشقّ سماءنا المكفهّرة: أن اسمحوا لفسحات صيفٍ "بيْنيّ" كي يقيم سرادقه الأخضر بين جدارين متآكلين، بما اختزناه من هموم ومخاطر وأعمار البُناة والمدافعين عن عُصاب الكلمات الشائخة!