اخر الاخبار

في تموز عام 1958، لم يكن العراق على موعد مع انقلاب عابر، بل مع ضرورة تاريخية فُرضت من عمق التناقضات التي تراكمت في بنيته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. جاءت ثورة 14 تموز كتعبير مكثف عن وعي شعبي بلغ حدّ الانفجار، وكمحاولة لاسترداد السيادة من قبضة التبعية والاستغلال. لم يكن هدفها تغيير الحاكم، بل تغيير المعنى: أن يتحول الشعب من موضوع للحكم إلى فاعل في صنع تاريخه.

في هذا السياق، لم تكن السينما والثقافة ترفاً بل أدوات تحرر. فمنذ اللحظة الأولى، انخرطت السلطة الجديدة في مشروع ثقافي هدفه إعادة تشكيل الوعي الجمعي. فتم إنشاء "مصلحة السينما والمسرح" عام 1959، وإطلاق الإنتاج الثقافي في قطاعات متفرقة، على رأسها السينما التسجيلية، التي تحوّلت إلى مرآة للجمهورية الوليدة. أفلام قصيرة مثل العراق الجديد وعيد الجمهورية وفجر الحرية لم تكن مجرد توثيق بصري، بل سردية ثورية تحاول إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن.

وقد شكّلت الفترة الممتدة من منتصف الخمسينيات حتى 1962 منعرجاً مهماً في السينما العراقية. ففي تلك السنوات، ظهرت أفلام مثل من المسؤول (1956)، أول محاولة جادة لنقد الواقع الاجتماعي بلغة بوليسية رمزية، ثم سعيد أفندي (1957)، من تأليف يوسف العاني، الذي عُدّ أول فيلم ينقل البيئة البغدادية بروح نقدية صادقة. إلى جانبه، ظهر أرحموني (1957) ووردة (1957)، وفتنة وحسن، وأدبته الحياة (1958)، التي كانت آخر أفلام ما قبل الثورة. أما بعد الثورة، فبدأ يظهر أفلام مثل إرادة الشعب (1959)، وهنا العراق (1960)، وعروس الفرات (1961)، ونبوخذ نصر (1962)، أول فيلم ملوّن في تاريخ السينما العراقية.

لكن الأهم من هذه العناوين هو ما حملته من تحولات جمالية وسردية. فقد بدأت السينما العراقية، لأول مرة، تبحث عن صوتها المحلي، متحررة نسبياً من النماذج المصرية. وظهر وعي جديد بدور السينما في مساءلة الواقع بدل الترفيه عنه. هذا ما تكرّس لاحقاً في فيلم الحارس (1965)، الذي جمع بين البنية الفنية العميقة والنقد الاجتماعي.

أما حضور المرأة، فكان من أبرز مكاسب مرحلة ما بعد ثورة ١٤تموز. لقد أسهم تأسيس معهد الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون في تمكين النساء من دخول مجالات الإخراج والتمثيل والسيناريو، لا كزينة للعرض، بل كصاحبات مشروع فني. من الأسماء البارزة نذكر: ناهد الرماح، التي لعبت دوراً ريادياً في فيلم من المسؤول، وهيفا حسين، التي شاركت في أرحموني ووردة، وخلود وهبي، ومديحة الشوقي، وزينب، التي تركت أثراً واضحاً في سعيد أفندي. هذه الأسماء لم تكن استثناءً، بل جزءاً من تيار نسوي صاعد حاول أن يربط بين الذات الفنية والواقع الاجتماعي. في المسرح أيضاً، برزت أسماء مثل زهراء الربيعي و آزادوهي صاموئيل، اللواتي شاركن في تأسيس لغة تمثيلية جادة، تستند إلى الحس النقدي والواقعية، وتخرج من عباءة الأداء المسرحي التلقيني.

إن ما أحدثته ثورة 14 تموز لم يكن مجرد تحرير للأرض، بل تحرير للرموز، للخيال، للصورة، ولأدوار النساء والرجال على السواء. لقد انفتحت شاشة السينما العراقية بعد تموز على سؤال جديد: ماذا يعني أن نروي حكايتنا بأنفسنا؟ لا بوصفنا متفرجين على ما يُروى عنا، بل كفاعلين في كتابة هذه الرواية. ولئن أجهضت قوى الردة مشروع الثورة لاحقاً، فإن هذا الإرث الثقافي لا يزال من العلامات الأكثر رسوخاً في ذاكرة العراقيين، حيث تظل العدسة ـ مهما تراكم عليها الغبار ـ شاهدة على لحظة كان فيها الحلم ممكناً، والكاميرا متورطة في كتابة التاريخ، لا في تغطيته.