اخر الاخبار

 "شخص ما/ يُدعى ابن محمد/

 ترك الرأسَ هنا والأطراف/

 ولفَّ القلبَ/ وغادرني" 

-(من قصيدة "المنقذ" لموفق محمد)-

توصَف حوليات التاريخ العراقي بأنها تنقيبات "عَشْرية"، يتّشح كل منها بوشاح استعمار أو ثورة أو حرب أو احتلال. ولعل بذلة تأسيس الدولة المفصَّلة على مقاس ملوك العراق الحجازيين مطلع القرن العشرين، قد ورثها الضباطُ الأحرار في زيّ يحاكي لونُه الطحلبَ النهري لدجلة، ثم أعطوها لأعقابهم من مغامري الانقلابات والحروب، قبل أن يرتديها المحتلّون وخدمُهم في نهاية القرن على حال من الترقيع والرثاثة. وعلى هذا النسق من ارتداء الأسمال، ورثَ التاريخ العراقي نوعاً من المذكرات الشخصية، لقادةٍ آفلين، في دفاتر موشَّحة بالتفاخر الطبقي والعشائري والتخايل العسكري والحكومي والتحزّب الفئوي والاستلذاذ السرّاني، حتى إذا وقعت هذه النماذج بأيدي جامعي التحف وتجار المخطوطات، شهروها على حذر، متباهين بلونها الحائل وعَطَنِها الورقي. وليس بعيداً عن هذين الأثرين من الأزياء والمذكرات، فالحفريات الأثرية لا تزال تكشف عن طبقة عميقة من اللقى الفنية والصناعات الشعبية الضاربة في القِدم والتفسّخ المادي، فلكأننا نستنقذ جُثثاً من مقابر الأمس، ونستأثر بمفاخرها/ فضائحِها طوعاً وكرهاً، ثم نحفظها في متحف كبير.

وفي حمأة هذا التوارث والتناقض بين الأثر وقيمته المعنوية، تفلتُ نماذجُ من تحقيبات التاريخ التفاخرية، توازي بقيمتها الخاصة ما يتهالك المتفاخرون على حيازته والتشاهر في امتلاكه من اللقى النادرة. إن في هذه النماذج الفالتة من التواليات التنقيبية "العَشْرية" ما يحلو لمالكيها اعتباره خيطاً سردياً منسولاً من الجبّة الكبرى لأسمال التاريخ. ومن هذه النماذج: خارطة قديمة لسكك الحديد، أو جدول لسير حافلات نقل الركاب، أو ورقة مقتطعة من دائرة الطبّ العدلي، أو بطاقة زيارة لمعرض خيريّ أقامه نزلاء سجن أو مستشفى عقلي، أو حلية فضّية منتزَعة من سلسلة حول رقبة طبيب مستشفى حمّيات مات بعدوى مرضاه، أو صورة لمقدمة سفينة غارقة، أو بطاقة بريد من طالب يدرس في بلد أوروبي لأبيه في إحدى القرى... وغير ذلك ممّا لا ينحصر في حقبة موروثة من حقبة استعمارية أو انقلابية. فهي دلائل على وقتٍ ينضح بالعزلة والجنون، ويرتدي ثوب الحزن والأمل، بتناوب صريح ومفاجئ. ومتى دخل أيّ منها نصاً محايثاً، بآليّة الأدب أو الفن أو السيرة الذاتية، أصبح وثيقةً على ضمير كاتبه الذي لا تفوته مخاتلة التاريخ وكمائنه المتحفية.

واستناداً إلى هذه المحايثة والموازنة بين الجبّة المتهرئة وخيطِها المنسول، يأتي الحديث عن مجموعة قصائد للشاعر موفق محمد، مكتوبة بقلم الحبر الجافّ، في دفتر مدرسي (٣٠ ورقة). أهداني الشاعر هذه القصائد- وعددها عشر- عندما فرغ من غرض قراءتها في جلسة من جلسات ملتقى القصة في محافظة ميسان، في العام ١٩٩٨، أو لعله آثرني بها بدلاً من قراءتها. لا أتذكر تفاصيل كثيرة للوقت الذي أمضاه قصاصون من مختلف أنحاء العراق هناك (راجع مقالتي عن الملتقى القصصي بميسان في فصل من كتاب: المحشر النقّال) وتبادلوا فيه أنخاب اللقاء بمعزل عن الحقبة التسعينية، تلك التي شهدت نهاية حرب وحادثة غزو وانتفاضة شعب وحصار دولٍ خلال عشر سنوات، ومهدت لحقبة تالية وُزّعت خلالها أنخابُ المنتصرين الكبار على عزلة القصاصين الصغار. ليست هناك من مقارنة تُذكر بين اللقى الصغيرة في أسواق "كوت العمارة" واللقى التي نُهبت من المتحف العراقي، في تحقيب واحد، بين دفتر القصائد ٣٠ ورقة ومئات الأطنان من وثائق الدولة والمخابرات والأرشيف اليهودي المنقول في شاحنات وسُفن وطائرات. احتفظتُ بهذا الدفتر دليلاً على تدهور الذاكرة التاريخية، المحقَّبة في دورات زائفة الحدود. حصرَ الشاعر تاريخَ قصائد الدفتر بين ١٩٩٠- ١٩٩٨، قبل أن تندسّ في مجموعة الشاعر الكاملة التي طبعتها دار سطور العام ٢٠١٦. (وكان الرقيب قد سلّها من مخطوطة ديوانه الأول "عبديئيل" العام ٢٠٠٠، ثم عادت للديوان في طبعته الأخيرة عام ٢٠٢٣ من دار أبجد). وعموماً، فقد انسلّت خيوط القصائد من جبّة الديوان الكبير لمحصول الشاعر الجامع، والتفّت في وريقاتها/ تسعينياتها المحصورة في "الكوت" العشائري، المتبقي من عمارة العهد العثماني، الذي انسحب جيشُه أمام زحف القوات البريطانية في دجلة. وعلى هذه الاستعارة من الانسحاب والانفراط، ينعزل هذا الجزء المنسول من الديوان الكامل، وكأنه فرع مشقوق من النهر الكبير، أو اسماً مندرجاً بين أنساب رجال "الأكوات" المصروعين في معارك الأهوار.

لا تغفل قصائد الدفتر (٣٠ ورقة) مثل هذه الدورة الكبرى من الانسحاب والانفراط، التي زحفت بثقلها القاتم على وقت العراقيين، واختطفت منهم فرصةً أخرى لاسترجاع جأشهم وامتلاك الثوب المناسب لجسدهم الفتيّ والقويّ والشجاع. كتمت الحقبة التسعينية على أنفاس الشاعر، حينها بدأ ببثّ نشيده الجنائزي- الاحتجاجي بقوة المالك شظايا الروح الكسيرة، وجمرات الفقدان الحامية من موقد الحرب والحصار والقمع السلطوي. وتدلّ اهداءات القصائد لعدد من أصدقائه- قبل حذفها من طبعة أبجد- على توفير شهودٍ لقبضته الشعرية الشحيحة (ناجح المعموري، شكر حاجم، سلمان داود محمد، إضافة إلى ضياء الذي أهدى إليه القصيدة الأولى من الدفتر).

   هل لشهادتي- بين شهود الدفتر- قيمة إضافية؟ هل أبقت باقةُ الأشعار المنسولة من حقبتها قصيدةّ تنشد التعلّق بقارئ غريب عن عالمها، من سوى أصدقاء الشاعر المذكورين في الدفتر الصغير؟ أظنني على حق في أن أدّعي نسبة قصائد الدفتر أجمعها إلى أسماء عديدة خيطت "أسمالُها" برُفات مقابر الزمان التسعيني الجماعية، مع ما انطوى من مآسيه وسجلاته المنسية، فنعتبرها بسبب ذلك أندر اللقى المحشورة في متحف التاريخ الكبير.

سأختار من دفتر موفق محمد قصيدةً أهداها إلى سلمان داود محمد بعنوان (توقيع)، أقرأها وسط وادٍ "غير ذي زرع" إلا من شجرة تنوح في صمتٍ على قبره:

"لا، ليس عيباً أن تموت/ فقد تعبتَ من التسكّع في مواخير الكلام/

ومن التخفّي تحت جلدِك/ صوّبتَ فوّهةَ المسدّس/ نحو صدرِك/

واتجهتَ إلى الأمام/ كان الذي يأتيكَ في المرآة غيرك/ لم يُطعم

الطلقاتِ صدرَك/ بل أطفأ العينين والشفتين/ والرأسَ المدجّج بالمذلّة/

واستدار إلى الوراء/ وخطَّ في المرآة قبرَك".