كان فيلم ستيفن سبيلبرغ "الفك المفترس Jaws 1975" أحد أكثر الأفلام تأثيراً على صناعة السينما الأمريكية ليس فقط بسبب المخاوف التي أيقظها في ملايين الأشخاص، ولكن بشكل أساسي بسبب أسلوبه السينمائي الرائع في السرد، وإخراجه الماهر. والأهم من ذلك، الاستعارة السياسية التي تتناول غطرسة الإنسان تجاه الطبيعة، والرأسمالية الشرهة. توقف ملايين الأشخاص، بعد مشاهدة الفيلم عن النزول إلى المياه العميقة، واللعب مع راكبي الأمواج. وكان البعض الآخر يعاني من كوابيس أسماك القرش الشريرة. وهناك من حاول تحديد مكان التقاء الأفق مع البحر إذا ظهر شيء ما يهددهم. بعد مرور نصف قرن على عرضه الأول، يشكل هذا الفيلم فرصة للتذكير بكيفية ولادته، وكيفية تصويره، والذي وصفته "مكتبة الكونجرس" عام 2001 بأنه "فيلم مهم ثقافياً وجمالياً وتاريخياً"، وجرى اختياره ليتم تضمينه في السجل الوطني للأفلام الأمريكية.
الكتاب المخيف:
كل شيء بدأ بالرواية الأولى للصحفي البالغ من العمر 34 عاماً وعاشق أسماك القرش بيتر بنشلي، والتي نُشرت في الولايات المتحدة عام 1974. وكان موضوعها قاتل متسلسل بحري، وهو موضوع غير مسبوق في سجلات الأدب الأمريكي. بعدما حصلت (يونيفرسال بيكتشرز) على حقوق نقل الرواية إلى الشاشة الكبيرة، كانت الفكرة الأصلية أن يتولى عملية الاخراج جون ستورجس، المخرج الذي عرف بأعماله الشهيرة كـ "الشيخ والبحر" و"السبعة الرائعون"، لكنه لم يتقدم للأمام. ثم جاء بعده ديك ريتشاردز المخرج الذي ظهر لأول مرة بفيلم The Culpepper Cattle Co. 1972، وهو فيلم غربي عنيف. إلا أن المنتجين سرعان ما أدركوا أنه ليس المخرج المناسب للفيلم، فوقع اختيارهم أخيراً على سبيلبرغ، الذي كان قد انتهى للتو من اخراج فيلم من انتاجهم هو فيلم The Sugarland Express 1974. كان سبيلبرغ يبلغ من العمر 26 عاماً آنذاك، وبمجرد أن قرأ الرواية، انبهر بها ووافق على إخراجها، حيث كان هناك العديد من أوجه التشابه مع فيلمه "المبارزة" Duel 1971وهو فيلم إثارة منخفض الميزانية، تدور أحداثه بين سائق مسالم وشاحنة "شيطانية". وقد كشف بعد سنوات، أنه أعاد استخدام صوت الشاحنة التي يتم تدميرها على أنه خشخشة موت القرش. قبل وقت قصير من بدء التصوير، شعر سبيلبيرغ بعدم الارتياح، خوفاً من أن يتم تصنيفه على أنه "مخرج الشاحنة والقرش"، وأراد المغادرة والانتقال إلى شركة (فوكس للقرن العشرين) لكن (يونيفرسال) استطاعت اقناعه بالبقاء مع وعد بصنع عدد لا حصر لها من الأفلام بعد فيلم "الفك المفترس". لذا، سيبدأ المخرج التصوير بميزانية أولية قدرها 3.5 مليون دولار، والتي تبدو صغيرة مقارنة بالميزانية النهائية التي بلغت 12 مليون دولار.
سيبدأ سبيلبيرغ العمل فوراً، وسيعمل مع كاتب السيناريو والممثل الكوميدي والمخرج كارل غوتليب على كتابة السيناريو. كما سيعمل على تغيير العديد من الأشياء في الرواية والتركيز على النصف الثاني منها. بدأ التصوير في الجزيرة السياحية مارثا فينيارد، ومع ذلك، كانت هناك معركة سابقة حول الممثلين، حيث أراد المنتجون تقديم أسماء قوية، وهو الأمر الذي لم يوافق عليه سبيلبرغ، حيث جادل بأن "القرش" يجب أن يكون بطل الفيلم. كان هناك العديد من المرشحين للأدوار الرئيسية، من روبرت دوفال وشارلتون هيستون إلى لي مارفن وستيرلنغ هايدن، ولكن لحسن الحظ ذهب الدور في النهاية إلى المخرج، الذي أحضر روي شايدر لدور رجل الشرطة، وروبرت شو لصائد أسماك القرش، وريتشارد درايفوس لدور عالم المحيطات.
التصوير المغامر:
يمكن أن تكون مغامرات التصوير والتقنيات المذهلة التي تم تطويرها لجعل كل شيء يبدو حقيقياُ موضوعاً لكتاب مستقل، إذ أراد سبيلبيرغ تصوير المشاهد تحت الماء عن قرب، لتشبه ما يراه الأشخاص الذين يسبحون، لذلك ابتكر مصوره السينمائي بيل بتلر معدات جديدة لتسهيل التصوير تحت الماء، بما في ذلك جهاز للحفاظ على ثبات الكاميرا تحت الماء. ثم كان لا بد من العثور على القرش القاتل. في البداية، كان لدى المنتجين فكرة تدريب سمكة قرش بيضاء كبيرة، لكن ذلك كان مستحيلاً. وبناءً على ذلك، تم تصميم ثلاثة أسماك قرش لكل جانب من اللقطات، بواسطة مدير التصميم الفني جو ألفيس قامت "شركة رولي هاربر للتصوير السينمائي" بتنفيذها. كما تم بناء نموذجين متطابقين من سفينة "أوركا"، أحدهما مخصص لإغراقها. كانت هناك أسباب كثيرة لتتجاوز ميزانية الإنتاج بشكل كبير الخطة الأصلية منها التأخير، وصعوبات التصوير، الذي تم لأول مرة في المحيط. بيد أن التأخير كان مفيداً في كثير من النواحي: تم تحسين السيناريو، وتحول فيلم الرعب إلى أسلوب هيتشكوكي، كما أصبحت دلالاته السياسية أكثر وضوحاً.
قصة الفيلم معروفة إلى حد ما: في جزيرة حيث كل شيء يتدفق بسلام ويأتي الدخل الرئيسي لسكانها من السياحة، مع بداية موسم الصيف تظهر سمكة قرش بيضاء تهاجم الناس. وعلى الرغم من إصرار قائد الشرطة، الذي يخاف من البحر، على إغلاق الشواطئ حفاظاً على سلامة المصطافين؛ يرفض رئيس البلدية ذلك خوفاً من كارثة اقتصادية. ولكن عندما يبدأ عدد الضحايا في الازدياد، سيتوجه برفقة قبطان ذي خبرة، وصياد أسماك قرش، وخبير محيطات، إلى المحيط لتحديد موقع الوحش البحري وقتله.
يظهر البعد الرمزي للفيلم حين يسلط الضوء على موقف كل من رئيس البلدية والسكان الذين لا يترددون في فعل أي شيء لمواجهة السعي لتحقيق الأرباح بذريعة تنمية السياحة، وهو الاتجاه الأميركي السائد. وفي الوقت نفسه، تسليط الضوء على إرادة الإنسان في ترويض الطبيعة، فضلاً عن التاريخ المؤلم لأمة تخفي وراء احتفالات صارخة بالاستقلال والديمقراطية جرائمها ضد الإنسانية (المشهد المتعلق بالقنبلة الذرية في عام 1945 وهو مشهد مميز) وعقوبتها الرمزية التي تأتي من سمكة القرش والموت المروع لصيادها، وهو من بقايا أميركا في الحرب الباردة. وليس من قبيل المصادفة أن عالم المحيطات الذي يمثل الجيل الجديد الذي لم يتحمل بعد خطايا الماضي، ورجل الشرطة الذي لا يريد "إنقاذ العالم" ولا فرض نفسه على الطبيعة، بل حماية إخوانه البشر كما يقتضي واجبه، سوف ينجو من الفخ. رأى النقاد في الإخراج النموذجي لسبيلبيرغ مساراً سينمائياً جديداً، من خلال الحفاظ على الوحدة غير القابلة للكسر بين الزمان والمكان والفعل، والتزامن الاستثنائي، والتدخلات الفنية الإبداعية، مما جعل الفيلم واحداً من أهم الأفلام الأمريكية. ولكن إلى جانب ذلك، كان لدى سبيلبيرغ، فضلا عن الثلاثي الرائع من الأبطال، وعلى رأسهم روبرت شو، مجموعة من المحترفين المثيرين للإعجاب: الصوت، المونتاج، التصوير، الإدارة الفنية، المؤثرات، وخصوصاً متعاونه الدائم جون ويليامز، الملحن وعازف البيانو الأمريكي الذي يُعرف، على نطاق واسع، بأنه واحد من أعظم مؤلفي الموسيقى التصويرية، ومن أكثرهم شهرة وتميزاً.
ــــــــــــــــــ
*صحفي وناقد سينمائي عراقي