هذا الكتاب بعنوانه أعلاه الذي صدر مؤخراً عن مطبوعات اتحاد الأدباء في العراق، للناقد العراقي مؤيد جوّاد الطلال أصفه بـ "عطر الشيخوخة"، شيخوخته الآن في عمره المديد، وشيخوخته الأولى حينما دَرّسَ وألّف عن القصة العراقية في بواكير نشأتها الأولى وعن رواد كُتّاب القصة القصيرة الفنية في بواكيرهم الأولى، ولا سيّما أعمال عبد الملك نوري باحثاً من خلاله عن مسيرة القص العراقي الفني في انطلاقته الأولى، وعبر مراحله المتعاقبة.
والقص كما وصفه دكتور (سليمان عشراتي) هو فعل إنساني تعبيري، يُمسح حدثاً واقعياً أو مُتخيّلاً، يجسم من خلاله، وبواسطة القول [الملفوظ أو المكتوب] عينة لواقعة من وقائع الحياة، بأسلوب تصريحي أو تلميحي (رمزي) وفنية بسيطة، خطيّة، وفي محيط واقعي، أو بطرح تجنيحي، يخرج من منطق العليّة، ويتمسرح في جدلية مكانية زمنية أسطورية.{المصدر: الخطاب القرآني، مقاربة توصيفية، د.سليمان عشراتي، دار العراب – دمشق2012م}.
وتتبدى لقارئ "الرائحة الأولى" روح القص فيما كتب مؤلفه مؤيد الطلال، وكأنه في نصه الأدبي قاص، وقاص انغرست روح القص في نصوصه الأدبية؛ وهذا كله متأت مما رفدته إياه قراءاته الأولى والمتتابعة في التراث القصصي العراقي في صور بواكيره الأولى عند القاص محمد أحمد السيّد وامتداداً مع عبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان وليس انتهاءً عند التكرلي، إذ درسهم كمجدّدين في أسلوب القصة العراقية.
"الرائحة الأولى" مجموعة من القصص القصيرة و النصوص الأدبية التي ساد فيها أسلوب القص والسرد الذي يُمتع القارئ من جهة ويتيح للمؤلف فرصة توصيل أهدافه الفكرية والسياسية لذهن المتلقي من جهة ثانية، بحيث تبدو كما لو أن مسافة التجنيس ما بين القصص الفنية والنصوص الأدبية شبه غائبة، إذ إنَّ (الطلال) استخدم أسلوب القص ليروي لنا رواياته وهي جزء من سيرة ذاتية تبدو غير مكتملة ومنتقاة من مراحل عمرية مختلفة، لتصدر في كتاب منفرد.
واختيار المؤلف لهذا الأسلوب؛ لم يجئ عفو الخاطر، وانما هو اختيار عمدي مقصود وجده (الطلال) مناسباً لطبيعة كتابه من زاوية كونه سيرة ذاتية في الجانب الأبرز؛ والسيرة الذاتية أقرب ما يناسبها هو الأسلوب القصصي ولذلك وجدنا (البصام)، الناقد الأدبي والتشكيلي، يكتب في سطور مقدمته للكتاب ما يلي: "هذه مجموعة من القصص والنصوص الأدبية هي بمنزلة سرد حكايات وهموم يومية يعاني منها البطل، برع في رسم كل موقف من المواقف التي أوردها الكاتب والروائي (مؤيد جوّاد الطلال)، من غير أن يجنسها أو يضعها ضمن مفهوم سردي واحد؛ إنما اتخذ من الموقف ومؤثراته الشخصية وبنى عليها حكاياته من خلال سرد يسوح ويتحدث بمختلف القضايا الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويترك لقلمه العنان في قطف ما يراه مناسباَ لتكملة الفكرة وحبكة السرد، دون أن يعنيه جنس كتابته غير أهمية البوح ليقدم نموذجاَ للسوح الداخلي في عوالم النفس ماضياً وحاضراً".
وهذا التوصيف الذي أورده (البصام) يتواءم مع الايحاء الشفيف بدءاً من اهداء المؤلف كتابه إلى (جدته صفية) التي وصفها ب"التقية النقية"؛ فمن المتداول في أدبنا الشعبي ولا سيّما أدب ((الحكايات))، وهو أدب سردي في واقعه، إذ إنَّ الجدات هن اللواتي كُنَّ يروين الحكايات للأبناء، ولعل المؤلف الطلال أراد تأكيد هذا التأويل أو الاشتقاق بإهدائه الكتاب إلى جدته، تأكيداً لهذا الدور الذي لعبته الجدات في تربيتنا في واقعها الشعبي.
في فصل الكتاب الأول الذي جاء بعنوان ((على الهوية)) يروي المؤلف، معاناة بطل قصته (مجيد) من استبدادية السلطة البوليسية ذات الأذرع الأخطبوطية التي تجهد في ايذاء الناس، ولم تعد سراً تلك الممارسات التي شاعت عبر سلوكيات حكام يتصرفون كالدمى وفق مشيئة الحاكم الفرد.
إنِّ هذا الفصل من الكتاب والفصول الأخرى التي تلته هي فيما يبدو مختارات من فصول أخرى كتبها المؤلف ولم ينشرها، وهذه الفصول مجتمعة هي سيرة حياته بتمامها، وهذا ما أستشفه في فصل ((حبّ يروي العروق ويبلّ الظمأ)) حين يقول: إنَّ الكتابة هي نوع من أنواع ما يسمى التسامي والتحرر والتصعيد والتنفيس، تعبيراً عن هذه الحالة الإنسانية.
وهناك فصل بعنوان "ثلاثة دروس من الطفولة"، يبدو أن المؤلف كتبها بتأثير اعجابه بمذكرات الشاعر نيرودا: أشهد أنني عشت، والتي قال عنها: "إنها جديرة بأن تُقرأ ألف مرة؛ لما فيها من شعر وموسيقا وفن واحساس وفكر وإبداع، اضافة إلى الحكمة والفلسفة واكتشاف جوهر الإنسان، وكل ما هو أصيل وخالد".
ثم عاد الطلال إلى صفحات طفولته الأولى ليعرضها بتفصيل وافٍ متأملاً ونابشاً في ذاكرته عن معطيات كثيرة يمكن استخلاصها، من سيرة حياته الأولى وهو في تلك السن المبكرة.
ومن الذكريات الموغلة في القدم يشير المؤلف الى فصل "الحبّ مقابل الحب" إلى الدرس الأول في مدرسة الحياة..
الدرس الذي يدرك الإنسان فيه – بوعي طفولي بسيط – إنَّ حياته مرتبطة بشكل من الأشكال بشجرة الحبّ، الحب المتبادل بين روحين، تلك الجدة النبيلة النجيبة التي كانت شجرة العطاء التي بفضلها عندما أحس المؤلف/الكاتب ( بأنه حي ومحبوب)).
ويتذكر رائحة أمه، بعد أن مرت خمسة وخمسون عاماً على تلك الرائحة الطيبة، فيما الجميع يظنون أن رائحة أمّه طيبة كما لو كان الأمر بديهياً؟
وما بين عطرين، عطر الأمومة بخلوده في النفس البشرية، وعطر الشيخوخة في ذاكرة الإنسان، تبقى سطور هذا الكتاب وكلماته تنث نثيثها في النفس فتنتشي بما لم تألفه كثيراً في أغلب ما ينشر ويقال في أيامنا هذه؛ ولهذا يبقى لكتاب كهذا عطره الدائم على مدى الأيام.