اخر الاخبار

يمكن القول وبثقة تامة أن الصحافي شمران الياسري (أبو كاطع) ظاهرة فريداة في صحافة العصر الحديث، شخصية أنتجتها التحولات الكبيرة في فترة صباه وشبابه، فاختمرت مع ما يملكه من مواهب متعددة ورؤى صافية والتصاق بالأرض وفك لرموز هموم الناس وفهم مسبق للصراعات الاجتماعية والسياسية ، فأجاد في وصف الصراع الطبقي عبر ما كان يحمل من قدرة على استثمار آليات الخيال لديه على وفق نسيج لذاكرة ريفية تحمل ألوان العذاب والحرمان للمجتمع كله مع نخبة مترفة متعالية تحصد أتعاب الناس كما وصفها الجواهري سنة ١٩٤٤م قائلاً:

لكن بي جنفاً عن وعي فلسفةٍ             

 تقضي بأن البرايا صنفت رتبا

وان من حكمة أن يجتني الرطبا          

فرد بجهد ألــوف تملك الكربــا

أصدر أبو كاطع صحيفة محلية سرية باسم (صوت الفلاح) مع أربعة فلاحين ومهندس زراعي في مشروع الدجيلة الزراعي ، هكذا كانت البداية مع الصحافة وقبل أن ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي , وفي سنة ١٩٥٨م وبعد ثورة ١٤ تموز عمل في بغداد وكتب في صحف عديدة منها صوت الأحرار والحضارة إضافة إلى برنامجه الإذاعي الذائع الصيت، كما أصدر في فترة تخفيه عن السلطة من سنة ١٩٦٣ إلى سنة ١٩٦٨ صحيفة الحقائق وهي نشرة أسبوعية خاصة لمنظمة الكوت المحلية ، وكتب بعد سنة ١٩٦٨م في صحيفتي "التآخي" و"طريق الشعب" وكذلك في "الفكر الجديد" وكان مديراً لتحرير مجلة "الثقافة الجديدة"، ومن خلال عموده في طريق الشعب كان الناس يعرفون حقيقة الأوضاع في البلاد، يقول عزيز السماوي وهو يصف عمود شمران الياسري : ( كان عموده مجساً .. مرهفاً .. حلوًا شفافًا رغيف خبز ساخن , ثراً بالحكايات والأقاصيص، الحكم والأمثال، الشعر والمفارقات كلها ممزوجة  بسخرية حزينة تمس شغاف القلب والعقل معاً بتوحد ندر مثيله في عالم الصحافة ).

إنفرد أبو كاطع بفنه الرفيع هذا وأقصد كتابته للعمود وهو أسلوب مقالي بلغةٍ عامة مفهومة كان يشخص كثيراً من الحالات السلبية بتناقضاتها وشخوصها وأبطالها فأصبحت كتابته هذه سمة مميزة من مزايا أدواته الإبداعية , يقول أحد الباحثين: (خاطب أبو كاطع العقل مستفزاً تارة، مهاجماً ومستفهماً  تارة أخرى ، كان يكتب بإحساس مرهف مثير يأخذ إنتباهة القراء إلى ما خالطته عجينة الأرض بروح الصبر وحلم المعوزين ورغبة الآملين في خلق نهضة للمجد يسترد من خلالها أبناء تلك الأرض حقوقهم لينتجوا مجتمعاً لا طبقياً يعيشه الناس آمنين). كان أبو كاطع يستعرض بلغة ساخرة شفافة مقالاته التي تدخل وعي المتلقي على مراحل لتتحول إلى مادة ثقافية يتناولها المثقف وغيره , فقد جسد عن طريق كتاباته الشهيرة شخصية ومعاناة الفلاح العراقي وكان لهذه الكتابات الأثر البارز في الثقافة العراقية، فقد كان يكتب التناقضات الأجتماعية والسياسية بمفردة شعبية سهلة الوصول لمدارك الناس، سير أغوارهم فكان محركًا وموجهًا وشارحًا لهم نفوسهم بحكايات ذات نكهة وفكاهة تستمد نسيجها من موروث شعبي أساطيره وقصصه لنفوس أتعبها الواقع بكل تناقضاته وصراعاته.

أنتج أبو كاطع شكلاً أدبيًا وجدانياً ثقافياً منفرداً فيه بروح إبداعية يختزل اللحظات المهمة في عمق التاريخ فيصير منها نافراً متمردًا ومرتبطًا بآنٍ واحد  وبقوة جذوره الريفية وفطرته الإنسانية وتوجهاته الإشتراكية، يقول الكاتب والروائي زهير الجزائري عن كتابات شمران الياسري: ( تعبر الحياة المألوفة اليومية عن نفسها بيسر بلا ملحمية ولا رمزية ولا أطناب أو تعاطف خارجي وبلغتها اليومية الخاصة المزدحمة بالأمثال والمجازات والكتابات المأخوذة من البيئة نفسها). كان أبو كاطع يناضل ويكافح بالكلمة من أجل دولة مدنية تتوازن فيها الطروحات في القواسم المشتركة التي يلتقي عندها الجميع  والتركيز على المواطنة وهي الإطار العام الذي يجمع المكونات كلها، ومن أجل صيغة تنفع مجتمعنا فلا بد من علمنته ومدنيته أولاً لأن العلمانية والمدنية صيغتان ضروريتان في بلد متعدد الأديان.