حين تدخل في الطريق الى الشعب عبر هذه الصحيفة فانت تصبح صديقا للكبار الذين يشار اليهم مثلما الاساطير والذين سبقونا في التجربة والشهرة سيما قبل عصر الانترنيت والكتابة اليومية اليسيرة اليوم.
في لحظة حمى غاشمة وقبل ايام من ذهابي الى معهد المعلمين في البصرة بالقطار من مدينتي الحلة عام 1972 خربشت دون وعي او معاينة نصوصا نثرية رافقتني الى البصرة لم اكن قد قرأتها.
في المعهد الذي درسني فيه الرائد الخالد الشاعر محمود البريكان وكان معاون المعهد القاص المعلم محمود عبد الوهاب ودرسنا كذلك الشاعر راضي سيفي والفنان شوكت الربيعي ولان البصرة بالنسبة لي هي دهشة الفجر الوردي المشع من نافذة القطار وشعلة الابار المتوهجة وبائعات القيمر في العشار وصوت ومرأى الباخرة في شط العرب وتمثال السياب ,اعدت كتابة النصوص الثلاثة وعرضتها على البريكان فاشاد بها وقال جملة مقتصدة:
-انه شعر
طرت في الهواء وسهوت عن نفسي, اية مصادفة هذه ان يحملني الشعر على محفة من التيه والزهو ,ولم اتأخر في ارسال النصوص بالبريد العادي الى الشاعر سعدي يوسف طالبا منه اختيار نص واحد للنشر ,والمفاجأة كانت انه نشر النصوص الثلاثة دفعة واحدة مع تخطيط للفنانة عفيفة لعيبي ,فذهبت الى السماء السابعة مزهوا ,وفي اليوم التالي كنا انا والشاعر كامل الركابي في كازينو على شط العرب ونتحدث عن الادب والشعر فقال لي:
-لو انك قرات النصوص البارحة في الطريق ستعرف ما هو الشعر.
ضحكت فانا كنت اقلد الكبار في تواضعهم ولم اخبره بما فعلت ولكني امام هذا الاعجاب قلت له:
-انها نصوصي
فلم يصدق وقال ارني هويتك واستمرأت اللعبة واريته هويتي فاذا به يقفز ليقبلني غير مصدق مما زاد من ثقتي بما اكتب .
ونشرت بعدها نص" البصرة ترفع كفها سلاما" حتى ان محل فلافل ابو قاسم في الشارع الوطني علقها على الجدار لانني ذكرت اسمه في النص.
وحين عدت الى الحلة قابلني الاديب ناجح المعموري وقال لي:
- يمعود خبصني عليك قاسم محمد حمزة وهو معجب بما نشرت .
والتقيت بالشهيد قاسم محمد حمزة وانا اشعر بالغبطة والاحتفاء وبعدها عرفني بالشاعر مهدي محمد علي الذي نقل من البصرة الى الحلة.
للذين لا يعرفون هذه الخصيصة المهمة ان جريدة "طريق الشعب" تعامل الجميع باكبار واحتفاء وتقدير مما يسهم في الاحساس بقيمة ما تكتب ..تصوروا نصك يراه البريكان وينشره سعدي يوسف.
وقبل انفراط الجبهة الوطنية كانت لنا دورة صحفية في الجريدة بشارع السعدون وايضا تصوروا يستقبلك في الاستعلامات الشاعر يوسف الصائغ ويحاضر رشدي العامل وفالح عبد الجبار وتلتقي بشمران الياسري وفاضل ثامر وتحاضر الممثلة زينب كضيفة وتلتقي بعبد الرزاق الصافي في الممرات ومؤيد نعمة وينوشك تعليق طريف من حسين الحسيني ,وتنال وردة رازقي من المعلم حسن العتابي والشاعر مخلص خليل والكاتبة فاطمة المحسن والشاعر عبد الكريم كاصد ..قد اكون نسيت بعض الاسماء ولكن "طريق الشعب" مدرسة اهلية بلا اجور ,واستاذة كبار بكل تواضع واخلاق جمة.
ونشرنا بأسماء مستعارة للكثير من التحقيقات والاخبار واذكر منها تحقيق اثار نفر في عفك باسم "ثامر مفيد" ومرات باسم ابو فيروز، كنا نمشي على الماء ونطير بأجنحة من احلام لا حدود لها ,رغم اننا ارتطمنا بالارض بقسوة كما وقع عباس ابن فرناس ولهذا الحديث فرصة اخرى.
واخر عهدي بـ "طريق الشعب" بعد ملاحقة السلطات للشيوعيين حين ذهبنا انا والروائي سلام ابراهيم الى بغداد وتعجبنا من وجود مكتبة الطريق وفيها بعض اعداد الصحيفة وكان في باب المكتبة الكاتبة فاطمة المحسن فدخلنا بطريقة خاطفة واشترينا بعض الاعداد غير مصدقين ثم اخفيناها تحت قمصاننا ونحن نرجع الى الديوانية مودعين حقبة مزدهرة ذهب فرسانها الى السجون او المنافي او قمم الجبال او الانكفاء في مدن العراق وهم يجرون خيوط الاسى رغم انهم حاكوا منها ذاكرة مشرقة لأيام "طريق الشعب" التي لا تنسى.