إذا سمعت منادياً يصرخ من أعماقك ويقول: " أيها الشاعر، لن تتمكن من كتابة القصيدة، فصوت هذا المنادي هو صوت آخر انكساراتك إزاء المقارنات غير العادلة التي تعقدها بين الـ (أنا) و (الآخر) البغيض الذي يطلّ برأسه من نوافذ مخاوفك، وإذا استللت قلمك كما يستل المحارب سلاحه ليدخل حرب اثبات الذات، فسوف ينكفئ الصوت المحبط ويغلق خلفه أبواب المقارنات ويبقى معلَّقا على مشجب الخيبات منتظرًا دخولك مرة أخرى في مقارنات لا متكافئة.
إن التجسيد النصّي للتذّمر من أعقد المهمات التي يتبناها منشئ النص الفني، ويخضع لقواعد مرور ضمنية لو أجاد السير وفقها لتيسّر له اقتلاع الثوابت من امتداداتها الراسخة كمراجع خارجية قادرة على تفسير لغز النص وتمثيل ذلك التمرد وإدراجه ضمن النص الموازي واستعادة ذاكرة القارئ التكويني صياغته في بنية مشتقة من مهارة التجسيد ونقاء التفسير، وتتحقق بهذا صور ناشئة في الذهن يشترك فيها كل من ايحاء الصورة ومخزون الذهن ذاته. وفي النصوص النثرية (لم تعد ضفائري ارجوحة لعينيك) للشاعر إبراهيم خليل ياسين، هناك نصّا نثريا بعنوان (قصائد فاقدة الذاكرة)، تستعاد صورة بعد أخرى، حين يدخل التذمّر كدافع للكتابة، وباعث للمقارنة حيث يسرد الشاعر أوصافًا متسلسلة واضحة يستنكر فيها دعة الكلمات والقصائد المروَّضة المستمدة من خيال مريح وتتمدد كعذراء ناضجة على سرير من العشب الأخضر وأوراق الورد وتصطف بجسدها الفاتن المعطَّر الى جانب نهر المرايا وتتراقص غدائرها (كلماتها) على انغام المترفين وترقص تلك العذراء (القصيدة) مع الفراشات في حلم وردي يذهب بها بعيدًا عن مناطق القلق والأحزان، لهذه القصيدة ذاكرة ملآى بما تخفيه الستائر الحمراء خلفها وتستحم بماء الترف وتفتخر حروفها بالحبر الفاخر الذي كُتبت به، فهذه القصيدة في مقارنة الشاعر هي (دمية جميلة)، ويترك للقارئ التكويني أن يقرر قيمتها، بل تفاهتها مهما حملت من ذاكرة، عابرة إزاء قصيدة أخرى تقف على الجانب المقابل من تلك المقارنة.
على الجانب الآخر يسرد إبراهيم خليل ياسين اوصافًا متسلسلة أيضًا، حيث يقول:
(قصائدي تلتحف معطف الليل
وتنام على ضجيج الشظايا
وتصحو حد الاختناق على جدران
نخرها الخراب
وتتبرج بسحب الدخان
وأرض تئن من فرط الصراخ
وأنين من غادروا قسرا)
اية قصيدة هذه التي تلتحف الليل وتدمن الشظايا وتعيش الخراب في اسوأ صوره حيث تلتصق مختنقة بجدران الدمار وتتغذى رئتها بالغبار والدخان؟.... أية قصيدة تلك التي لا تجد ارضًا تستقبل بذورها إلّا الأراضي اليباب؟ ولا تملك ان تشتري لسطورها مساحيقاً تتبرج بها الا صراخ الموجوعين وأنين المكلومين، ولا تجيد الرقص سوى على أنغام آواخر أنّات الموتى والراحلين؟
لا بد أن تكون هذه القصيدة بلا عشّاق، فهي صوت الحقيقة المُرّة التي تعانيها الإنسانية، وذاكرتها تختزن جراحًا فاغرة ما زالت تبتلع الزمن والانسان.. ذاكرة يتمنى المترفون لو انها تموت، تنمحي، تنطمر.. أيّ شيء يحدث لها الا ان تبقى حيّةً تدينهم وتشهد على موت ضمائرهم.