أجبرت جسدي المرهق على النهوض بعد رنين المنبّه المزعج، الطّقس في الخارج ماطر، يحيل البقاء في السّرير إلى جنّة. توجّهت إلى خزانة ملابسي، أنتقيت قميصًا مختلفًا عن قميص البارحة، أحاول تجديد حياتي قدر الإمكان متجاوزًا المتاح المحدود، مبتعدًا عن جلباب أبي المهترئ، حلمي الدائم أن أتجنّب العيش في قفص حياته الروتينية المملة، لم يبرح أرضه يومًا، يجد صعوبة بالسّفر بعيدًا عن محيطها ولو لمرة واحدة، ثروته الطائلة كما يرى؛ معول يغرسه في التراب ليحصد أنقى ما تختزنه الأرض، كان يقول لي دومًا: القناعة كنز لا يفنى، "وعلى أدّ فراشك مدّ إجريك". أختلف كثيرًا عنه، ولا أجد في تفكيره الضيق مخرجًا من البئر المظلمة الّتي فرضها على نفسه. اكتفى بالحمير للتنقل من مكان إلى آخر، لم يفكّر يومًا في اقتناء سيّارة؛ بحجّة أنها تلوث الجو، ربّما أتقبّل وجهة نظره تلك، لكنّي أرفض الصّحو على صوت العصافير في الصّباح كما كان ينصحني، كيف لي أن أترك دفء السّرير لأستمع إلى زقزقتهم المزعجة وهي تعكّر صفو بداية نهاري؟!
كثيرًا ما حاول اقناعي بالعمل معه في حراثة الأرض وجمع محصولها الّذي يرى فيه انعكاس أشعّة الذّهب كما يزعم، في كل مرة كنت أتهرب باختلاق حجج إلى أن تخلّصت من إصراره هذا بعد أن حصلت على وظيفة بالمدينة بمساعدة صديق لي.
لم يرق الأمر له، هو يجزم بفشلي، والدتي أيضًا تفضّل بقاء وحيدها بين أحضانها. سافَرْتُ رغمًا عنهما؛ لأعيش حريّتي وأختار نظام الحياة الّتي تتماشى مع طبيعتي.
أعشق الظّهور بشكلٍ لائق، لديّ العديد من الملابس، لا أجد صعوبة في اقتنائها؛ أختارها دومًا على ذوق أحد صنّاع المحتوى المغرم بالموديلات العالميّة المبهرة.
أعترف أن راتبي لا يسمح لي بتعدي خطوطٍ معينة، رغم ذلك أخصص ميزانية تفوق أضعافه لأضع نفسي في قالب موازٍ لأولئك الّذين ولدوا وبفمهم -ملعقة من ذهب-.
بدأت بتحضير نفسي للذهاب إلى وظيفتي، وقفت أمام المرآة، على يساري هاتفي، أتابع خطوات تأنّقي من خلال فيديو صاحب المحتوى العالميّ، أحاول تقليد روتينه اليوميّ، رشقت على وجهي العطر الّذي ما زلت أدفع أقساطه الشهرية، أحطت معصمي بالسّاعة ذات الماركة العالمية، لم أكترث للإنذار الّذي وصلني بسبب عدم تسديدي لأقساطها. ماركة الحزام العالمية الذّهبية لمعت حول خاصرتي.
توجهت إلى سيارتي الّتي يفوق لمعانها النجمات، ما أقبح طبعها! تفاجئني بعد مسافة قصيرة بخزانها الفارغ من البنزين، لا أدرك سرّ إدمانها على ابتلاعه بهذه السرعة، فهي لا تمنحني فرصة التمتع برؤية إشارة العداد وهي متسمرة على علامة الاكتمال.
حينما وصلت إلى مكان العمل، حاولت أن أزلق جسدي عبر الصّالة بأكبر سرعة ممكنة؛ حتى لا يلمحني مديري الّذي سيلاحقني حتمًا بعباراته الموبخة بسبب تأخري في إكمال واجباتي. جلست على مكتبي، الأوراق المتراكمة عليه عكّرت صباحي، بدأت بإنجازها ببطء محاولًا عدم ملامستها لزرّ قميصي الذهبيّ.
في نهاية الدوام، رمقتني الأوراق بتقزز، وعدت نفسي للمرة الألف أن أكمل إنجازها في الغد.
بعد دقائق محدودة من دخولي للبيت، قرع الجرس، تسمّر صاحب العمارة أمامي، رشقني بوابل من الشتائم طالبًا مني إيجار الشقة، لم أستطع هذه المرّة التملص بحججي الواهية، صرخ بصوته الغاضب: غدًا عليك أن تفرغ الشّقة من حاجاتك ومنك. صعق الباب خلفه. هرعت إلى خزانة ملابسي، أخرجت جلباب أبي؛ نمت بسباتٍ عميق.
ــــــــــــــــــــــ
*مهندسة مدنية وروائية من القدس، تقيم حالياً في شيكاغو.