اخر الاخبار

ليس كغيره من الذين  يمرون في المقهى الشرقي، يعتاشون على الاستجداء من  روادها ، وعلى ما يجود به عليهم المارة في الشارع العمومي، يفترشون مساحات صغيرة أمام المقهى يتلقون الصدقات والمعونات والعطف والحنو.  هو لم يكن منهم ، ولم يكن له شيء من مزاياهم. و القول الشائع عنه، الذي قال به  أحد رواد المقهى في يوم وصوله الى المكان،  بأنه "متسول نازك" هو قول عارٍ عن الصحة، لا يرتكز على أساس رصين.  كذبة صدّقها قليل من زبائن المقهى،  ثم تلاشت الى النسيان. وجوده المستمر  بينهم فكك الانطباع الأولي عنه وأزاله إلى الأبد.  و أظهر له مزايا طيبة كثيرة وجدها فيه الزبائن ، فضلا عن هدوئه واناقة ملابسه الجذابة.  ثيابه نظيفة تلمع لجدتها،  مكوية دائما  وحديثة الموديل بما يناسب سنه.  لم يتقبل صدقة أو يفترش الأرض مع قطيع المتسولين. في كل مرة  يدخل المقهى،  يفعل ذلك بكبرياء وعزة نفس تُنبه الجميع  الى أنه على رفعة ووقار. اعتاد الجلوس في زاوية  واحدة من المقهى،  و حتى أن قوة هذه العادة خصصت المكان له، فلايجلس فيه أحد سواه.  بدا  منشغلا عن حركة الزبائن و صراخهم  المتعالي في صراعات الدومينو وضرب أقراصها على مناضد الخشب بقوة فارطة.  كأنه  لم يكن بينهم، بل في موجة تخيلٍ تأخذه بعيداً عن المكان، سارحًا  به عن دوران الأرض حول الشمس أيضا.  بدا وكأنه مُركِّز انتباهه في نقطة ما  خارج المدارات المألوفة  لدى غيره،  وليست مرئية عندهم.  منذ حلّ بينهم لم يسمع أحد له صوتاً، أو كلمة في أي موقف، أو مناسبة ،أو التباس، أو حدث طارىء . أمتص  بهدوئه  صخب المقهى والشارع، والعالم . ظنّ الزبائن أنه أخرس أو أصم،  لأنه يتغاضى مطلقا عن كلام الٱخرين معه أو عنه ، ولا يأبه لتعليقاتهم . 

الصحفي (س)، من رواد المقهى الشرقي البارزين، يختلف بايقاعه عن البقية، يتمتع بثقل نوعي مميز عن بقية الرواد، و يشعر بذلك الجميع. كما أن له حضوة عند صاحب المقهى لتأثيراته الملموسة على تقدم مستوى وسمعة المقهى،  لما يستقدمه إليها من زبائن  رفيعي الطراز   وأسماء بارزة  في عالم الثقافة والسياسة والاعلام و رجال السلطة والمسؤولين وضباط الشرطة والأمن . بحكم صداقة بينه وبينهم وحاجة كل طرف الى آخر في عملية تبادل منافع. الصحفي بحاجة الى رجال مؤثرين في مجال عمله،  وهم بحاجة الى صحفي مؤثر لتلافي الفضائح وغض النظر عن أخطاء لا تغتفر.  تميز الصحفي "س" بإجادته للصحافة الاستباقية وبزّ أقرانه فيها حتى أن ما قدمه من تقارير استباقية أحدثت تغييرات واضحة في مجريات الأمور، وكانت حديث الشارع، سيما مأثرته الشهيرة  حين أخرج مجموعة  أبرياء من السجن، وأرسل مجموعة  متورطين بدلاً عنهم.   فهو ضليع في قلب الموازنات الى جانب الحق والعدل. وأسدى خدمات مجانية رحيمة للكثير من زبائن  المقهى وعوائلهم ممن  لهم  متعلقات شائكة في دوائر الدولة.   شهد الصحفي  "س "  اللحظة الاولى لوصول الرجل الغريب الى المقهى، وأثار الغريب فضوله حين لم يجلس في أماكن فارغة عند مقدمة المقهى كما يفعل الغرباء الداخلون إليها لأول مرة، بل مضى يختار زاوية في عمق المقهى ليجلس فيها . ولما رآه في اليوم التالي  يكرر صمته ومحل جلوسه، استبعد مقولة إنه "متسول نازك"  كما قاله بالأمس زبون ساذج.  واشتغل لدى الصحفي "س" عداد الظنون وحسابات  الذاكرة وقال لنفسه مَن عساه يكون؟  هل هو عابر سبيل أصم،  أم متسول، أو  مريض نفسي، أو تاجر مفلس، أو باحث اجتماعي، أو سجين سياسي أكمل محكوميته قريباً، أو متغرب عاد حديثا، أو ...؟

في الأيام  التالية أفرد  الصحفي "س" بعضاً من وقته في المقهى لمتابعة ورصد هذا الكائن الغريب، وتخلص من الهاجس الداخلي الملح الذي يطلب منه أن يترك شأن  الرجل و يتفرغ لشؤونه.  نزل بكامل قناعته الى تطبيقات الخطة،  وتخلى عن تقنيات الصحافة، مهنته الأحب لقلبه، واستخدم ما يتمتع به من دقة نظر وطول نفس ليماثل دور عنصر أمن محترف في ملاحقة، وتتبع خطوات هذا الرجل. ولو أن هذه الخطوة بعثت في داخله موجة ألم عاصف شقت ذاكرته كما ينبعث الكمأ من بين تشققات التربة.  خرج صدى ثقيل ومرّ لزمن كئيب مغلف بعسرة أُزيحت بالكاد عنه يوم وضع تحت رقابة الأمن، ومتابعتهم للتثبت من عدم تورطه بعلاقات مشبوهة بما وراء الحدود.  طرح امارات الذكرى جانبا وقرر ان يمضي  بما عزم عليه.  ألتقط للرجل صورًا  بكاميرته عالية الدقة،  وهو في أوضاع مختلفة، وحرص أن يكون الأمر في غفلة منه. جمع  من الصور ما يكفي لفتح  ألبوم كامل عنه. أخذ يدقق و ينظر إلى تلك الصور في فترة مراجعة المسودات والملاحظات التي  يعد عنها التقارير الصحفية التي يبعثها إلى  الصحف التي  يعمل لحسابها.  ويخرج من قراءة الصور بمعلومات  جديدة  متخيلة عن الرجل الغريب، و تراكمت لديه انطباعات تهيؤه الى مرحلة متطورة في الدخول الى عالم الرجل الغريب. لم يعتقد كبقية الزبائن بأن الرجل الغريب أخرس أو أصم  أو أنه ساذج أو غبي؛ فقد لمح،  خلال مدة متابعته له، دلالات كثيرة تنم عن ذكاء،  و ثقافة، و تعليم.  اطمأن لفكرة أن تلوح  فرصة مناسبة لعبور أسوار المنطقة الغامضة، وفك طلاسم الحيرة التي أعترته عن  الرجل. وكان حذراً بما يكفي، وعلى قناعة بأن  من  مظاهر الغباء المفرط أن يفتح  أحدٌ كيس جواهره  أمام المارة، فالأمر يبعث فيهم الحسد والانتقام ومشاعر لصوصية نائمة. رواد المقهى غير معنيين بجهوده ولا بحقيقة الغريب أو من يكون. المناخ العام  شرط  مهم  في عرض  الحقيقة، وتقبل المفاجئات،  و احتواء عناصرها من دون رفض، أو تهكم، أو إلغاء. بذل جهوداً في متابعة الغريب، وصار يتعقبه بعد أن يخرج من المقهى، علّه يجد دليلاً  إلى أسئلة كثيرة تنبثق في خاطره ، تولّدها أداة الاستفهام "هل"  جراء تطبيقاتها في مواضيع متنوعة مثل: هل  لهذا الكائن  بيت يأويه،  أو له عائلة زوجة وابناء وبنات، ومعارف،  و سيرة ذاتية، وتاريخ، وتجارب حب، وشجارات، و جرائم، و سرقات، و..؟ في كل مرة يتبعه فيها كان يضيع من بين يديه ويصل معه إلى نهايات معتمة فيعود خائباً .. فقرر أن يقتحم عالمه  حتى ولو بالإكراه.  لكنه غاب عن المقهى، ومضى على غيابه شهر كامل وأيام عديدة أخرى من الشهر التالي ، الصحفي "س" يتحرق لرؤيته ثانية .. وكان الأمر عادياً عند زبائن المقهى لم يثر عندهم الغرابة والتساؤل. فالمقهى مكان أشبه  بأسطوانة كبيرة مفتوحة من الطرفين، لا تشكل الذاكرة  فيه حضوراً   ذا بال. سوى عامل المقهى، بادله بين حين وآخر  إشارة استفهام عما وصل إليه في البحث عن الرجل الغريب، ثم انشغل عن ذلك و انقطع تماماً. عمد الى التركيز على التفاصيل المدونة لديه، والتي عاشها الرجل الغريب في عالم المقهى منذ قدومه اليها الى ان غادرها. استغرقت عاماً كاملا وشهراً واحداً وأحد عشر يوماً، مدة لابأس بها للخروج بتقييم نهائي للحالة. ولاحت في التقييم الذي يجريه مخرجات مهمة على ضوء ما يبثه مع نفسه كل ليلة من اوجاع وهذيان يشبه  وجع من أضاعوا كنوزًا ثمينة . كان الهذيان بخفة دخان السجائر يلبد فضاء الغرفة بسحبه اللولبية. لكنه خال من لذة التبغ وتسكين الالم، فهو ألم بكامله يغيّب وعي الصحفي "س" بتفاصيله المتدفقة:  أحس أن الرجل الغريب ذو منزلة رفيعة بين قوم يتبعونه على رأي يقول به. طالما تتبدل سحنات وجهه في عيني، فهو اليوم ليس هو بالأمس، ولون عينيه ليس ثابتاً على صبغة واحدة،  فإن كان لونهما نرجسياً  في يوم ما، فهو بنيٌّ في يوم آخر، أو أسود، أو عسلي، وهكذا.. وخُيّل إليّ يومًا أنهما يميلان الى زرقة البحر. هل ذلك الامر معقول وحقيقي؟ وما هو تعليله؟ قد  يكون مرده الى ما ألمّ بانطباعاتي عنه من هوسٍ مربكٍ انبعث في داخلي لفرط التعاطف مع هدوئه، أو أن تعليل تلك التحولات اللونية في عينيه مبعثه تكيّفه النفسي مع حالات البيئة، مما  يجعل خلايا نادرة في تكوينه البيولوجي تتوافق مع أطياف الطقس الملونة.         وليس قدرته على الصمت أمراً غير ذي بال، فهي تضاهي صبر الصائم عن الماء والطعام في قيظٍ لاهب. وإن ذهبنا الى تحليل  سرَّ اكتسابه لهذه القدرة الغريبة، فاذكر بعض أمور ظنية وليست  يقينية قطعية  تقربني من السر،  منها أن يكون الرجل الغريب  من عائلة ريفية تمتهن صيد الطيور الحرة  المهاجرة،  فجرب هو وأبوه تلك المهنة التي تتطلب من الصياد سكونًا وهدوءًا عاليين ليمنح الطيور طمأنينة حتى تألف المكان و تدخل الى مساحة الفخ لتأكل الطعم المعروض لها في شبكة الصيد، التي سيجذب حبالها الصياد ليحصل على  صيد وفير و دسم.  هذه المهنة تعلّم طباع الصبر والاحتمال والصمت الطويل.  ومنها أيضا ما يتراءى لي : وهو أنه مرّ بتجربة سجنٍ انفرادي طويلة انعكست عليه بتأثيراتها،  ولم تسنح له فرصة التعافي منها.و في صباح شتائي  ممطر، وقفت على باب المقهى سيدة ستينية  يبدو عليها الوقار والهيبة، لتسأل عن الصحفي  (س) بالاسم.  ولما لم يكن قد وصل بعد، وأُخبرت بأنه سيأتي عصرًا، كما أجابها صاحب المقهى، قالت: " سآتيه غدًا،  فلينتظرني الساعة الثانية ظهرًا، فعندي ما هو مهم له،  أرجو ان تبلغه بذلك." فشيعها صاحب المقهى بكلمات لائقة. جاءت في اليوم التالي  في تمام الموعد الذي قطعته،  وكان الصحفي بانتظارها،  لكنها لم تدخل،  فخرج لاستقبالها  باحترام بالغ، لكنه لا يعلم ما هو غرضها من زيارته. ثم تأسف لها قائلاً : " إن المكان لا يليق باستقبال السيدات ."  فقالت: " أعلم ذلك، لكني مضطرة لتسليمك أمانة مرسلة لك شخصيا.. أرجوك أن تفتح الامانة في مكان غير المقهى." وسلمته مظروفًا  أبيض كبيرًا يحتوي على محتويات لا يعلم عنها شيئًا. فقال: "سأذهب الى بيتي حالا."  ودّعته ومضت في سبيلها. وصل الى مكتبه المعزول في بيته، حيث  أعماله ومكتبته .

فتح  المظروف معتقدًا أنه يحتوي على معلومات عن تحقيق  في أمر ما،  كما يتركه عادة بعض الناس للحديث عن مشاكلهم  ومشاكل مدنهم ليعمل منها تحقيقاته الصحفية. لكنه ما  أن رأى صورة المُوصي تبرز بين محتويات الظرف، حتى  زال ذلك الاعتقاد،  فهذا من خاصية غريب المقهى.   ثم   قرأ  في ورقة مفردة نصَّ وصيةٍ  كُتبت بخطٍ لا نظير له في الدقة والجمال، تقول: "تصل هذه الأمانة  حصرا إلى الصحفي (س)، أحد رواد المقهى الشرقي.  هذه مذكراتي، التي أحرص إلى وصولها إلى الناس، وقد اخترتك لإنجاز هذه المهمة.                                                             كنت مختفيًا عن أنظار السلطة،  واهتديتُ  إلى أن أكثر الأمكنة أمانًا هي الأماكن الظاهرة. ئلكن في اللحظات الأخيرة، وبمحض الصدفة رآني خائنٌ وضيع  فدلّهم عليّ .. وكنتُ أتحاشى الشوارع العامة وأسير في طرق مهجورة فارغة، وفي ذات لحظة ظهرت  سيارة لاندكروز مسرعة فصدمتني بكل سرعتها . فتكّوم حطامي على الأرض، وانا انزف من كل صوب في جسدي،  وجاء  مسلحون منها ليحملوني فسمعت كبيرهم يقول: "اتركوه فقد مات. "وجدت متسعًا لأن أكتب لك  في نفسي الأخير.. وقد ذُيّلت الرسالة بالاسم والتوقيع. فصرخ الصحفي : " إنه القائد...  يا لمصيبتي!

أخرج الأوراق المائتين  التي سُطّرت كلماتها  بأجمل خط . واحتوت على  عصارة ذهنية مدهشة،  تمثل مدافعة  فارقة عن حقوقٍ مضيعة  لكائناتٍ عاشت على هذا الجزء من الأرض، وسبل استرداد ما ُفقد وحُجب منها ..

كرر قراءة (المدافعة) مراتٍ ومرات، فصار يرى كل بعيدٍ قريبًا، وواضحًا لا تخالطه الشوائب والظنون. وقام بما ينبغي لطباعة الوصية. فتبادل المثقفون والطلاب كتاب (المدافعة) بينهم، يسهرون الليالي لإتمام قراءته، و يعقدون الندوات السرية عن مضامينه حتى الفجر .. عسى أن يروا  الشمس كما يرتأون. 

عرض مقالات: