وُلِد محمّدُ بنُ عبدِ الرّزّاق كُرد عليّ سنةَ 1876، في دمشقَ ، وتُوفّي فيها، سنةَ 1953. وكان جدُّه، أبو أبيه، كُرديًّا، من كُرد السُّليمانيّةِ بالعراق، جاء إلى دمشقَ واستقرّ فيها. وكانت أمُّه شركسيّةً من قفقاسيا (بلاد القوقاز). أمّا هو فمن أجلِّ أدباءِ العربيّة، وعلمائها، في التأليف والكتابة، وإدارةِ شؤون المعارف، وريادةِ النهضة!
أقبلَ، وهو في سنّ الحداثة، على التعلّمِ والاستزادةِ من المعرفة؛ فاستقامت له العربيّةُ، وأحسن التركيّةَ، والفرنسيّةَ، وشدا أطرافًا من الفارسيّة، وحفِظ جانبًا من ديوان المتنبّي، وجوانبَ من دواوينِ غيره من الشعراء، وحفظ مقاماتٍ من مقامات الحريريّ، وحفِظ عيونًا من النثر العربيّ، ثمّ أخذ يكتبُ، وينشر في الصحف والمجلّات. وكان قلمُه قد انسربت فيه أشياءُ ممّا حفِظ من شعر ونثر؛ فمال حرفُه، وهو يكتب، نحوَ صنعةِ الحريريّ في السجع، وتطلّبِ البديع، والافتتان باللفظ؛ ثمَّ رأى ذلك، من بعدُ، مستثقلًا، وأدرك أنّ الإيغال في الصنعةِ يُفسد الأفكارَ، ويعوقُ اندفاقَها؛ فأخلى قلمَه من التكلّف، وجنح به نحوَ الإسماح، فصارت كتابته سَلِسَةً سائغةً تُعنى بالمعنى ووضوحِه أكثر من عنايتها بما سواه .
كان قد انشغل بالصحافةِ قراءةً وكتابةً؛ فقد بدأ بقراءة الصُّحفِ وهو في الثالثةَ عشرةَ من عمره؛ فلمّا بلغ السادسةَ عشرةَ أخذ يحرّر الأخبار، ويكتب المقالاتِ؛ ثمّ عُهدَ إليه بتحرير" أوّلِ جريدةٍ ظهرت في دمشق، واطّرد صدورها مدّةً، واسمها الشام."ومن ينشغل بالصحافة لا بدّ أن يلابسَ السياسةَ، وأن تتّصل أسبابُه بها؛ وقد كان الأمرُ في الشام، على ذلك العهدِ، للعثمانيينَ، وهم، يومئذٍ ، في آخرِ زمانِهم، وأفولِ دولتهم؛ يُظهرون الشدّة ويُسرفون فيها، ويقمعون صوتَ أهلِ البلاد. وكان لواليهم، في دمشق، رأيٌ في ما يصحّ نشرُه، أو لا يصحّ، وكان يأذن ويمنع؛ وقد شقي محمّد كُرد عليّ بالرقابة على قلمه، وشكا منها فقال: "إنّها صراع بين الحريّة والاستبداد، وناهيك به من صراع، والقابضون يومئذٍ على زمام الأمر يهزؤون بالحريّة وأنصارها."غيرَ أنّ قلمَه دَرِبَ بالكتابة والإنشاء والتحرير، وصار قادرًا على معالجة شتى القضايا حين يُريد . ثمّ تهيّأ له أن يخرجَ بقلمه من دمشق إلى القاهرة، وأن يكتب في مجلّة "المقتَطَف"، وأن تتّسعَ شهرتُه وترتفعَ منزلتُه. ورأى أن يزور مصر في سنة 1901، وأن يمدّ الأسبابَ إلى صُحُفِها، وكتّابها، وأن يمكثَ فيها مدّة؛ وفي مصر، يومئذٍ، طائفةٌ من أهل الشام يزاولون الكتابةَ، وتحريرَ الصحف ؛ فليكن واحدًا منهم! غيرَ أنّه لم يلبثْ حتّى عاد إلى دمشق، وفي نفسه أن يرجِع كرّةً أخرى إلى القاهرة حيثُ سعةُ الأفق ورحابته، وحيثُ النأيُ عن الوالي العُثمانيّ ورقابته. وإذ أراد، في سنة 1905، أن يُصدرَ مجلّةً شهريّةً باسم "المقتَبَس"، تتناولُ العلومَ والآداب، على نهج "المقتَطَف"، توجّه إلى القاهرة وأقام فيها، وشرع بإصدار مجلّته، والعملِ في صحف أخرى. وقد استقامت له الحياة في مصر، واستقام لها ، وشدّته إلى أدبائها وكتّابها أوثقُ الأواصر حتّى قال: "أصبحتُ في مصر كأنّي في بلدي."غيرَ أنّه رجَع إلى دمشق في سنة 1908، حين أُعلن الدستورُ في الدولة العُثمانيّة، وأرخى الاستبدادُ بعضَ قبضته، وشرع بإصدارِ جريدةٍ يوميّة سياسيّة باسم "المقتَبَس"، فصار لديه مجلّةٌ شهريّة، وجريدةٌ يوميّة، كلتاهما باسم "المقتَبَس"؛ وقد أخذت المجلّةُ طابعَ البحث والدراسة بمعالجة شؤون الفكر والأدب والتاريخ، وأخذت الجريدةُ الشأنَ السياسيّ وما يتّصل به من وقائع يوميّة .
لقد اتّضحت له ثلاثةُ مسالكَ في حياته؛ بعضُها من بعضٍ؛ مسلكٌ يقوم على الصحافة ، وآخر يتّصل بالسياسة ، ومسلك يتخذ البحثَ والتأليف ؛ وكلّها تلتقي على الجِدّ ، والصدق ، والإخلاص . وإذا كان قد بدأ بالصّحافة موصولةً بالسياسة فإنّه آلَ، من بعدُ ، إلى الدرس والبحث والتأليف واستقرّ فيه . وكان قد بلغ من الصحافة أن صار صاحبَ مجلّةٍ وجريدةٍ ، وصاحبَ قلمٍ متينٍ قويٍّ على التحرير والإنشاء متى أراده، وبلغ من السياسة أن صار وزيرَ المعارف يومَ أنشِئت حكومةُ دمشق الوطنيّة . بيدَ أنّه كلّما تقدّمت به السنُّ انحسرت عنايتُه بالصحافةِ والسياسة ، وأفرغَ نفسَه، شيئًا فشيئًا ، للبحث والدرس والتأليف حتّى أمست الصحافةُ والسياسةُ ، عنده ، صفحةً من صفحات التاريخ ؛ أمّا الشاخصُ المتجدّدُ على الزمن فإنّه منحاه في البحثِ والدرس والتأليف .
حين قامت الحكومةُ الوطنيّةُ في دمشق، عَقِبَ الحربِ الأولى، وتولَّى الملكُ فيصل الإدارةَ، كان من مسعاها إنشاءُ مؤسساتٍ إداريّةٍ وعلميّة ليترسّخَ معنى الدولة، وتتحقّق المقاصدُ منها في التقويم، والتوجيه، والرعاية، والمحافظة؛ وقد أُنشِئ، في ما أُنشِئ، المجْمعُ العلميّ العربيّ، سنة 1919، وهو أوّلُ مجْمعٍ علميّ عربيّ سبق مجمعَي القاهرة وبغداد، وكانت رئاستُه قد أُسنِدت، حين أُنشِئ، إلى محمّد كُرد عليّ وظلّ فيها من سنةِ الإنشاء حتّى وفاته في سنة 1953، فصار له بها لقبٌ يدلُّ عليه دلالةَ الاسمِ على صاحبه؛ هو:"الأستاذُ الرئيسُ". وقد كان من سَني أثره في المجمع أن نشر، في سوريا، تعريبَ التعليمِ كلِّه ، وجعل تدريسَ موادّ العلم الصرف بالعربيّة فضلًا عمّا سواها من موادّ .
لقد برع الأستاذُ الرئيسُ بالبحثِ، والدراسةِ، والتأليفِ ؛ فقد كان من نهجه أن يصطفي الجديدَ غيرَ المدروس، ويرجِع به إلى أصوله، ويستقصي ، فإذا أحاط به، وامتلك ناصيته؛ أخذ بالكتابة المبينة عنه متوخّيًا الدقّةَ، والإصابةَ ، والوضوحَ ، مع سموّ المقاصد في حفظ كيان الأمّة في لغتها وأدبها .
كان مدارُ البحث عنده واسعًا يتناول كلّ ما يقع في حقل الحضارة العربيّة الإسلاميّة؛ من تاريخ ، وعقائد، وأدب، ولغة، وغير ذلك؛ لكنّ صنعةَ الكتابة، وأساليبَ البيان شغلته على مدى حياته؛ فقد وضع كتابه الرائد"رسائل البلغاء"، في سنة 1908، وقد جمع فيه جملةً من آثارِ بلغاءِ العربيّة كابن المقفّع، وعبد الحميد، وابن المُدَبِّر، وغيرهم لتكونَ "خيرَ مثالٍ ينسِجُ عليه من تسمو به الهمّةُ إلى الأخذ بمذاهب أئمة الإنشاء. "وهو لا يكتفي بإيراد الرسالة وحدَها، وإنّما يمهّد لها بما يضيئُها بشيء من حياة كاتبها، وشيءٍ من أحوال عصره لتتمّ المعرفةُ الصحيحة. ثمّ أخذ يكتب في أُمراء البيان مُفصّلًا في حيواتهم، وفي أساليب كتابتهم، ثمّ بإيراد أمثلةٍ من بيانهم وهم عنده يبدأون بابن المقفَّع، وينتهون بابن العميد. وكلا كتابيه هذين؛ "رسائل البلغاء"، و"أُمراء البيان" رائدٌ في الوقوف على النثر العربيّ القديم، ودراسته، وقد ظلّا، من بعدُ، مرجعين لا يستغني عنهما دارسُ البيان العربيّ. وله كتاب في شؤون إدارة الدولة العربيّة الإسلاميّة عنوانه : "الإدارة الإسلاميّة في عزّ العرب"، رجع فيه إلى مصادر التاريخ والأدب والحديث النبوي، فجاء متكاملَ النواحي. وله : " غابر الأندلس وحاضرها"، أقامه على مشاهدةِ القائم، ومدارسةِ التاريخ والجغرافية على نحوٍ لا يخلو من الإعراب عن النفس في انجذابها إلى تلك الأرض. ومثله في المنحى كتابه:"غُوطة دمشق". وكتب فصولًا عن أعلام معاصرين؛ عربٍ ومستشرقين فوفّاهم حقّهم ، وأشاد بفضلهم ، وأضاء جوانبَ من حيواتهم وفكرهم. ومع ذلك كلِّه كان قد دوّن ما جرى، له وعليه، من وقائعَ؛ من بَدء حياته حتّى علتْ به السنُّ ، ووقف عند رجالِ عصره ممّن اتّصلت بينه وبينهم الأسباب. وقد صدرت هذه المدوّنةُ بخمسة أجزاء عنوانها: "المذكّرات". وله كثير غير ذلك! لقد نشأ محمّد كُرد عليّ في مشتبكِ العروقِ والثقافات ، لكنّه حين استوى عودُه واتلأبّ نهجُه؛ كان عَلَمًا باذخًا من أعلام هذه العربيّةِ الكريمة ، وكاتبًا منشِئًا من كبار كتّابها ...