لم يكن اهتمام الفنان علاء بشير بالسيد المسيح حديثًا أو طارئًا فقد تناول ثيمة "المُخلّص" منذ عام 1959م وكرّرها بأشكالٍ ومُقارباتٍ متعددة. وقد حان الوقت لأن يكرّس لـ "المنقِذ" معرضًا كاملًا يضم 5 لوحات زيتية و 25 تخطيطًا بأحجام مختلفة علمًا بأنّ قاعة كنيسة "Our Lady of Lourdes" بمدينة "سَري" جنوبيّ لندن لم تتسع لبعض لوحاته الأخرى بسبب كِبر حجمها. لقد أشرت أكثر من مرة بأنّ د. علاء بشير هو الفنان المُفكر الذي تتسيّد لديه الفكرة على الأسلوب؛ إذ تأتي الثيمة أولًا ثم تليها التقنيات والملامح الإخراجية لكل عمل فني ينفّذه على الورق أو الكانڤاس أو أي سطح تصويري آخر. ما يلفت النظر في هذا المعرض هو التنويع الثري على فكرة "الصليب" شكلًا ومضمونًا، فقد تناسل هذا الشكل الراسخ في الذهن الجمعي إلى أكثر من ثلاثين عملًا فنيًا لو لم ندرج الأعمال الفنية الكبيرة التي لم تسعها قاعة الكنيسة وهي المكان الأنسب للعرض حيث تماهت فيه وأصبحت جزءًا من فضائه الديني.
تحمل غالبية اللوحات عنوانًا مُوحدًا وهو "المُنقذ" باستثناء لوحة "العشاء الأخير" التي تُحيلنا أو تُذكِّرنا بلوحات الفنانين العظماء الذين نفذوا الثيمة نفسها برؤىً ومقارباتٍ مختلفة أمثال ليوناردو دا فنشي وميكيلانجيلو بوناروتي وجيرمولا دا سانتاكروسي وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعًا. لا يغمط علاء بشير حق الفنانين العالميين في تنفيذ لوحة "العشاء الأخير" وتركيزهم على فكرة الخيانة أو غيرها من الأفكار التي يمكن تلمّسها في هذا العمل الفني الخالد لكنه لا يتفق تمامًا بما يُوحي إليه الفنانون الآخرون، ذلك لأن السيد المسيح يظهر في هذه اللوحات المتقنة التنفيذ والإبداع مع تلاميذه أو حوارييه الاثنيّ عشر وكأنهم جالسون في فندق من الدرجة الأولى يرتدون الملابس الأنيقة الفاخرة ويتناولون الأطعمة الشهية بينما يرى بشير أنّ الفكرة الأساسية لهذا العمل الفني تقوم على غسل أقدام تلاميذه الاثنيّ عشر بضمنهم يهوذا الإسخريوطي دلالة على تواضع السيد المسيح ودعواته الدائمة إلى فعل الخير والمحبة والتسامح. ومع أنّ الفكرة المهيمنة على هذا العمل الفني هي الخيانة إلّا أنّ الفنان علاء بشير يرى أنّ كل الذنوب يمكن غسلها وتطهيرها باستثناء الخيانة التي لا ينفع معها أي شيء وأنها أسوأ ما يمكن أن يرتكبهُ الإنسان. ويعتقد بأنّ هذه اللوحة تعتمد على الثنائيات المعروفة في الوجود مثل الحياة والموت، الخير والشرّ، الحُب والكراهية، العدالة والظلم، القاتل والضحية وما إلى ذلك. لو تأملنا هذه اللوحة جيدًا لوجدنا الأقدام كلها باتجاه واحد وهو حوض الاغتسال باستثناء قدّميّ يهوذا اللتين تتحركان بالاتجاه المعاكس في إشارة واضحة إلى شخصية الخائن الذي لم يُصن جوهر العلاقة بين المعلّم والتلميذ أو بين المخلّص وحوارييه الاثني عشر.
يتعاطف علاء بشير مع الصليب ويندغم مع فكرته القائلة بأنه بريء ولا ذنب له في صلب السيد المسيح وقد نجح الفنان في أنسنته وتحويله إلى كائن بشري مرهف الحسّ يتألم ويتعذب من الفكرة التي نُسبت إليه فلا غرابة أن نراه وهو يعاني في كل لوحة فنية ويعلن عن براءته من هذا الذنب الكبير الذي أُلصق به، ولهذا السبب فإن غالبية الزوار، إن لم نقل كلهم، يتعاطفون مع الأشكال المتعددة الجديدة التي اتخذها الصليب أو لاذَ بها في أضعف الأحوال. في لوحة "المُنقذ" التي تم اختيارها كبوستر للمعرض يتحول الصليب من أداة تعذيب قاسية يتمسمر عليها الضحية إلى ذراعين حانيتين تحتضنان المسيح وتحدبان عليه مثل أمٍ رؤوم. تتكرر الفكرة ذاتها في عمل ثانٍ باذخ الألوان لكن الأحمر يهيمن ويسرق الأنظار في إشارة لهول الجريمة وفظاعة المشهد الراسخ في الوعي الجمعي. أمّا اللوحة الزيتية الرابعة ذات المناخ الأسود فهو ليس ظلًا وإنما السماء هي التي نزلت من عليائها لتحتضن المسيح بعد أن تخلّى عنه الجميع وهرب التلاميذ برمتهم ولم يبقِ معه سوى مريم المجدلية التي تمثلت بالظل الذي جسّدتهُ أنامل الفنان. يختم بشير لوحته الزيتية الخامسة التي ينضمُّ فيها العشرات، وربما المئات أو الألوف أو الملايين من البشر ليتخذوا شكل الصليب الذي يرمز إلى معاناة السيد المسيح وعذاباته الناجمة عن خيانة يهوذا ومع ذلك فهو يقول في "وصية المحبة": "أحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم".
يشترك بعض التخطيطات بأفكار فنتازية بحيث يهرب الصليب من المهمة التي أُسندت إليه فنراه صارخًا أو باكيًا أو مُتذمرًا أو معتذرًا أو حادبًا في أضعف الأحوال. ثمة لوحة شديدة التعبير يظهر فيها الصليب متكررًا لعشر مرات ويمكن أن يتضاعف لآلاف وملايين المرات في إشارة إلى تكرار المأساة التي لا تنتهي ولا تتوقف عند حد معيّن. أمّا مشهد العين الحانية التي تتكرر في عدد من التخطيطات فكأنها، هي والصليب، يطلبان الرحمة والمغفرة ويعلنان بالفم الملآن أن لا علاقة لهما بما حدث للسيد المسيح من مصاب جلل.
لا بد من الإشارة إلى أنّ حضور المايسترو وعازف البيانو سلطان الخطيب قد أثرى المعرض بحضوره حيث عزف عدد من المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية لباخ كما قدّم قراءة موسيقية للوحة "العشاء الأخير" لليوناردو دا فنشي وعلاء بشير وفنانين آخرين. وقد لاقت هذه المعزوفات الجميلة في اليومين الأول والثاني من المعرض استحسان الحاضرين الذين أعربوا عن إعجابهم بهذا التعالق الفني والموسيقي والقراءة الجديدة لأعمال الفنان علاء بشير الذي يغمرنا بعطاءاته المتوالية بين آونة وأخرى.