اخر الاخبار

ليس جديداً طرح وكشف ما تعانيه موروثاتنا من حيف واهمال .والأقرب إلينا ما لحق مواقعنا الأثرية بعد عام 2003  من تهشيم وسرقة اللقى والمخطوطات وحرق الكتب المعنية بالتراث .كما حصل من حيف الحرق لمكتبة المتحف في مدينة الناصرية الذي أبكى الدكتور(عبد الأمير الحمداني) لذكره العطر والجمال .فليس جديداً ومثيراً فقط ما لاقته جدارية الفنان الرائد(غازي السعودي) من تطاول همجي لا يكترث لرموز الفن والجمال ،وصل إلى هدمها ونقلها إلى مكب النفايات ،كما ذكرت ابنته بالصوت والصورة وفيض الحزن الدال على نوع الخسار التي واجهها هذا الأرت الذي يتوجب العناية به .وكان احتجاجاً يضمر حزناً لا يخصها لوحدها ،وإنما يثيرنا جميعاً ؛مقدّري الفن والجمال وليس التخريب ،كأن يكون فعل  نقله كاملا ونصبه في ساحة أُخرى على يد فنانين يمتلكون الغيرة الوطنية ويعون مدى تأثير الفن على الحياة والوجود الإنساني وهو الحل والسلوك الأمثل والإنساني .من خلال هذه المداخلة ذات الموقف الدفاعي التي ستندرج على دراسة تفاصيل اللوحة .لأن ما يهم الجميع هو المحتوى ،كما حصل مع جدارية جواد سليم .

لذا تجيء مبادرتنا هذه في إثارة الاحتجاج على ما جرى ،تضامناً مع الجمال والسعة الفكرية التي تركها الفنان (غازي السعوي) أولاً ،ثم كشف برؤيه وتقييم لجزء من نتاج الفنان وهو الجدارية المتطاول عليها(الجدارية الأُندلسية) التي ينتظم محتواها صنّاع الجمال والفرح (العازفون والراقصون) ومحتويات الأمكنة الدالة والناطقة بمثل هذه الفعالية التي توائم المكان وتستكمل فرحه ، شأنها شأن الجداريات الحاملة والموحية عبر رموزها وألوانها وطبيعة حراكها الفني ،فتمضي به باتجاه خلق الصورة المؤثرة للمكان المشاع للجميع والنخبة المحاورة للفن وتفاصيله. ما نجده على سطوح تفاصيلها عبارة عن استجماع بين جمال المكان خصائصه وطبيعة القدرة الفنية التي تمكّنت من خلق تفاصيل لا تختلف جمالياً عن الفنون الأُخرى المشاعة للجميع، فهي جدارية تداري الحس النفسي ،وتستكمل مزاجه الرائق عبر طبيعة الرموز التي تدمها الجدارية بحيوية تتماثل مع حيوية الإنسان المستقبل للمحتوى . بمعنى انها ملك مشاع للجميع ، لأن تفاصيلها تخص الإنسان ورغبته في استكمال حياته بالفن والجمال . فإذا كانت جدارية سليم تُثير سؤال التاريخ عبر الرموز الأُسطورية ؛فإن جدارية المسعودي تستل من ملحمة ألف ليلة وليلة مروياتها لتكون عرضاً بالصورة لتأثير الفن على الإنسان .فكان الألوان وتظافرها وحوارها الجمالي ما يُضفي على التفاصيل استكمالاً سردياً بكل ما من شأنه استكمال التفاصيل المتحركة .إن الحيوية الوجودية للإنسان في الجدارية تتعدد أشكاله ومستوياته (أنثوية وذكورية ) تستكمل الصياغة كما هي مرويات كتاب الليالي .فالسرد الذي انتظمت الألوان والحركات المؤدية لها العازفون وباقي من يظهر في الجدارية ليتظافر مع عطاء الآخرين الفني .فهي جدارية تستنهض الساكن في المكان والقاصد له لمداولة المتعة الجسدية والنفسية .إنها جدارية تستكمل شروط الحياة كبقية جداريات الفنانين العراقيين ،مما يتطلب التعامل معها بشروط اللياقة الفنية المستندة إلى حس وطني  يعرف الفن والجمال ويحترم جهد الإنسان المبدع في الرسم والنحيت والعمارة .فلا فرق بين عمارة اللوحة وعمارة السكن والتوظيف ،بدليل جهود المعمارية (زَها حديد وملاذ الآلوسي).

إن الفنان (السعودي) ذو اهتمام بالتفاصيل والتأثر بمآثر الموروث،خاصة السردية منها ككتاب الليالي .فمنهج الفنان ينبثق من رؤيته الموضوعية ثم الفنية واعتبارها الميدان الذي يجد فيه الفنان المجال الأكثر استجابة لطرح وجهات النظر المتعلقة بالحركة واللون واشتباك النماذج، مما منحه مساحة واسعة من الاجتهاد في التعبير. ولعل حشد المعارف وعمق الحياة وسعة الرؤية المستندة إلى البنية الفكرية التي تميل إلى الأهم فيها وهو الجمال, لذا كانت الخاصية البانورامية السمة الأساسية في التعبير الفني في أعماله ، واعتبار سطح اللوحة مجالاً لعكس وجهات النظر وكشف ما يجري في الواقع. لكن الاختزال واستعمال الرمز كدالة للتعبير وفق بلاغة هذا التوليف بين صورة الواقع ودلالة الرموز المنبثقة من المجال الحيوي في الواقع هي السمة الرئيسية في أعماله. وهذا الاستعمال لحيثيات الارتقاء والتصعيد باللوحة إلى مراتب الملحمية التي دأب جيل(السعودي) إلى التأثر بالملاحم التي تركها السابقون في الحضارات القديمة. إنه بأعماله قدّم تصورات القيمة الفنية الجامعة للجدارية بمثل ما أنجزه الإنسان الفنان في الحضارات القديمة التي تحاكي السرد وترك الرموز تمارس فعاليتها وتأثيرها من خلال فك الرموز المتروكة بدراية وفن على سطح اللوحة. كذلك وضعها موضع التثبت التاريخي الشاهد على الأزمنة والأمكنة.

هنا.. نُثير صوت الاحتجاج المستند على عوامل التخريب وتحويل المكان من دون مراعاة هذا الإرث والتعامل معه بروح إنسانية ووطنية خالصة.