يمكننا أن نفهم في هذا المجلد (إرادة العرفان) من كتاب لميشال فوكو المتعلق بمفهوم الجنسانية و تاريخها الطويل و القمعي المرير من الفرضية القمعية التي واكبت كل عصور الثقافة في الغرب، ثم ظهرت في الثقافة الرأسمالية الغربية الظاهرة (الترامبية) باعتبارها نزعة فكتورية من منظور فوكو بعد أن تطورت العلاقات المختلفة التي اقامتها الجنسانية؟ إن هذه الظاهرة تحاول إعادة عقارب الساعة نحو الفضيلة الفكتورية في التعفف بعد صعود ترامب في فترته الرئاسية الثانية عام 2025 وتزامنها مع الأزمة الخانقة للرأسمالية، وإسقاظاتها في قضايا عدة تتعلق بالأسرة الامريكية والى ما وصلت إليه من توسعات في العلاقات الجنسية خارج العائلة، وحصر علم الجنس في غرف النوم، و التلويح بالعصا الغليظة كما حدث بعد القرنين السابع عشر و الثامن عشر وفرض القمع على الحرية الجنسية، و ممارساتها بشكل حر و واسع، حينما اقتصرت السلوكيات والممارسات الجنسية على عملية الانجاب، في بناء الأسرة العاملة التي تحتاجها حقبة الرأسمالية الجديدة الصاعدة من إعادة التشدد الفكتوري إلى فضاء علم الجنس من ناحية التقييد بمفاهيم الجندرة و الجنسانية؟ إن إرادة العرفان التي أوضحها ميشيل فوكو في كتابه (تاريخ الجنسانية إرادة العرفان) 1976في تقصيه لمسألة الربط بين تاريخ السلوكيات الممارسات الجنسية وبين تحليل الأفكار الثقافية و الفكرية بمختلف أنواعها و اتجاهاتها لوضع الشكوك الثقافية حول شعورنا بأننا مقموعون من ناحية عدم قدرتنا على الحصول على فرصة في ممارسة المتع الجنسية، و إنه بمقدورنا ان لا نلبي رغباتنا خارج العائلة، كما في عصر الرأسمالية المتأخرة من جهة النظرة السياسية في الغرب في تغول الرأسمالية المتوحشة على ان تجبر السلوكات والممارسات الجنسية على التخلي عن مواقفها الثابتة، فتاريخ الجنسانية يؤكد على ذلك في ترسيخ فكرة إننا لا ننال من متعتنا الجنسية بما فيه الكفاية، و تزايد الشعور بأننا مقموعون، ففي (تاريخ الجنسانية) راح ميشيل فوكو في دراساته الجريئة عن الجنسانية يثبت فكرة ـ لم نهتم بالسلوك الجنسي، و نجده عبر تعاقب التاريخ دافعاً يحفز فينا أن نفكر بما يخلق في حياتنا من سلوكيات؟ تؤكد لور كاتسارو في "عاهرات و عزاب" القرن التاسع عشر (المثقفون و الجنس و الثورة) إن الفكر البرجوازي في القرن التاسع عشر كان يصنف العاهرات و العزاب في فئة الجذام الأخلاقي، و ما كان من المنطقي ان يكونوا في قلب رؤية عالم جديد يهدف نحو تنظيم الحياة في المجتمع من خلال بناء أسرة ، وهذه فكرة يوتوبيا شجع عليها التحفيز الفكتوري للبرجوازية الصاعدة ، بيد إنه في القرنين العشرين و الحادي و العشرين في ظل الاستخدام الفاحش لعلم الجسد و علم الجنس تعافت الحرية الجنسية و باتت الجنسانية تربط بين السلوكات و الممارسات الجنسية و في جوانب العصر السياسية و الاقتصادية و الثقافية؛ لعب الجسد في حقبة الحداثة و ما بعد الحداثة دوراً في تفكيك خطاب القمع و المنع و مقاومة استيعاب الجسد كونه تسليعاً معولماً. وفي زمن بايدن كانت تصرفاته تبشر بالحرية الجنسية بكل جوانبها التي ترفض الأساسيات الثقافية في تكوين الاسرة المقيدة في عملية الإنجاب فقط، و لقد لمسنا في ثقافة حرية الجنس و الجسد، بتشكيل نمط جنسانية متقدمة تفسح المجال لوضع سبل كفيلة لجنس آخر، لكن انهيار الأسس الفكرية للديمقراطية في الغرب، و اعتبار نهاية القرن العشرين نهاية الديمقراطية بوعيها الوظيفي و الأدائي أيقظ الشعور بضرورة فرملة تلك الجنسانية التي شهدت على قيام ما يسميه فوكو بردة فعل على ظهور الفرضية القمعية التي شكلت قمعاً لفكرة تأصيل الشذوذ، و الحد من خطاباته المختلفة و كبح جماح الاستخدامات المفرطة للجنس و علم الجنس كما تصوره الدراسات التي تصب في سياسيات الجسد، نهاية الديمقراطية كما جاء في (نهاية الديمقراطية تأليف جان- ماري جيهينو) وجاءت الفوضى ، بسبب الحرية المطلقة التي شجعتها الرأسمالية ، التي لم يتوان ميلتون فريدمان من التنظير لها في كتابه(الرأسمالية و الحرية) في وضع العلاقة بين الحرية الاقتصادية و الحرية السياسية في أولويات الهيمنة الرأسمالية التي احتضنتها الظاهرة الترامبية باعتبارها الهدف الأساسي لخق اقتصاد امريكي قوي، لهذا استعد ترامب على محاربة كل فرص الحرية المائعة، و في المقدمة تضييق الخناق على الحياة الجنسية خارج إطار العائلة التقليدية، ويرى مناصريه ان إجراءاته مقبولة، لكن الحقيقة هي ان (الظاهرة الترامبية) ليست جديدة في الغرب، فالقمع الجنسي و تقنين علم الجنس نهض من القرن السابع عشر، و ترسخت الجنسانية الغربية منذ ذاك الوقت على اعتبار إن الذكورية هي الصورة البينة لسلوك السلطة بكل أدواتها القمعية، و ربما يضع فرض التحرزات التي وضعتها السلطة ضد الاختراقات الليبيدية أسباباً وجيهة بنظر ترامب في تعزيز الفصل بين مفهوم الجندر والجنس، بحكم التاريخ الفكتوري للقمع في هذا الشأن، لكن طرق التحليل النفسي للرجال كبار السن تؤكد إن الدوافع لعملية الفصل ليست علمية، إنما تأخذ منحى سياسياً بغطاء اخلاقي، إن الظاهرة الترامبية تأتي اليوم و (الرأسمالية في طريقها لتدمير نفسها باتريك ارتو ماري بول فيراري) هي في أسوأ مراحلها المتوحشة، و إن أضعف ضحاياها هي المفاهيم المرتبطة في إنجازات النساء في العالم، و غن خطوة غير مدروسة جراء الضائقة الاقتصادية العالمية، التي تتحملها امريكا بوصفها الدولة التي تتحكم بالعالم، و تعمد نحو خنق السلوكات الثقافية التي تعطل حركتها صوب التفرد و التوحش وتتبعه بنظر علماء النفس والباحثيين السلوكيين خطوة تعرقل جهود المؤسسات الثقافية التي تعنى بقضايا النساء، و المؤسسات التعليمية التي قطعت أشواطاً مهمة في الدراسات النفسية السلوكية للمجتمع الأمريكي، فالدراسات الجندرية مهما عانت من ضغوطات مورست و لا زالت دورها من أجل كبح جماحها نحو عالم يراد له أن يكون اكثر احتشاماً دون الالتفات إلى التشرذمات و الانحرافات الجنسية التي صاحبت ضخامة تطاول الثقافة في دهاليز صناعتها، فعالمنا اليوم تقتاده الرأسمالية المتوحشة التي لا ترحم و خطوة ترامب نحو تضييق رقعة الفضيلة لم تعد ناجعة، من كونها ظاهرة سياسية بامتياز لا تخدم سوى مصالح فئة من كبار السن هم أكثر ما يقودهم الشعور المتأخر بضرورة إعادة الهيمنة الذكورية على عالم يتعثر برغباته في جنسانية تعنى بتأصيل الشذوذ طريقا للخلاص الأخلاقي.