الحذرُ لا يُنجي من القدر، هكذا كانت تُردد فطوم، بصوتها الأجش، وهي تجلس على عتبة البيت الطيني، تسحب من سيجارة بالية كأنها تمتص ما تبقى لها من الحياة. كانت تلك الحكمة ترن في أذني شاهين مثل تعويذة، لكنه، ككل الرجال الذين يظنون أنهم فوق القانون، لم يُعرها اهتمامًا قط، ولم يرَ في كلماتها سوى بقايا من رماد الحكايات القديمة التي لا تنتمي لزمانه.
شاهين، بجسده الخلاسي الذي أورثته له أمه، كان شهابًا ينفجر وسط ظلام المرقص. عيناه تقدحان شررًا، وخطواته على أرضية الملهى كانت تُسمع كإيقاع منفصل عن موسيقى المكان. الراقصة، تلك التي اختار لها القدر أن توضع في طريقه، كانت تتلوى أمامه كحية مضيئة، تدور حوله، تشعل فيه النيران التي لا تنطفئ إلا بالمجازفة. مدّت يدها تضرب صدره بخفة، مشيرة له أن يقترب، فتقدم بلا تردد، كفراشة تطارد وهج النار، ولم يعلم أن اقترابه هذا كان بداية سقوطه. كان المرقص غارقًا في نافورة من أضواء النيون، كأنه مشهد مقلوب من جنة تتوارى في أحضان الجحيم. شاهين، بفحولته التي كانت مثار أحاديث النساء والرجال على حد سواء، أمسك بالراقصة، وجعلها تتحسس قضيبه كمن يعيد اكتشاف جسده. لم تكن تلك أول مرة، ولن تكون الأخيرة، لو لم يأتِ ابنُ الرئيس.
ابن الرئيس، ذلك الظل الثقيل الذي يجر وراءه حرسًا ببدلات سوداء ووجوهًا خالية من التعابير، دخل المكان كما يدخل الصياد غابة يعرف كل ممراتها. توقف فجأة أمام شاهين، كأنما شمّ رائحة تحدٍّ في الهواء، وسأله ببرود أشبه بالسكين:
— نِمتَ مع الراقصة من قبل؟
رفع شاهين رأسه، كأنه يتحدى ما لا يُتحدى:
— نعم، سيدي.
— كم مرة؟
— مرة واحدة.
نظر ابن الرئيس إلى الراقصة، التي صارت كتمثال من الخوف، ثم عاد إليه بنبرة أشد قسوة:
— تعرف أنها تابعة لي؟
— كلنا في خدمتك، سيدي.
لم يُعجب الجواب ابن الرئيس. كان يبحث عن ذريعة، أي ذريعة. قال:
— هل استأذنتَ مني قبل أن تنام معها؟
— لا، سيدي.
لم يكن هناك وقت للتفكير أو التراجع. يد ابن الرئيس ارتفعت كعاصفة مفاجئة وصفعت شاهين بقوة كأنها تهدف إلى محو وجوده. سقط ضرسه الأمامي على الأرض مثل نذير شؤم. قال ابن الرئيس بصوت يملؤه احتقار مميت:
— امك عاهرة. لماذا لم تستأذن؟
بقي شاهين واقفًا، يمسح دماءه بيده العارية، ويرد بهدوء بدا أقرب إلى الجنون:
— أمي ليست عاهرة، سيدي.
عاد ابن الرئيس يضحك، ضحكة بدت كأنها صوت أبواب جهنم تُفتح:
— أمك ماتت من كثرة المضاجعة!
لم يعرف شاهين كيف يرد. لم يكن يعلم ما إذا كان عليه أن يبكي أمه التي لم يعرفها إلا كظل غائب، أم يغرق في لحظة الغضب التي تجتاحه. كان الصمت ثقيلًا، يكاد يقتل الجميع في المكان.
ثم أضاف ابن الرئيس بنبرة حاسمة:
— أي راقصة هنا تابعة لي. إذا أردت أن تلمسها، تتكلم معها، أو تنام معها، تستأذن أولًا. فهمت؟
رفع شاهين رأسه، وفي عينيه بريق كمن يواجه الموت مباشرة:
— لماذا أستأذن، سيدي؟ هل هي قريبتك؟ أمك؟
تجمد الهواء في المكان. لا أحد يجرؤ على الحركة. وفي تلك اللحظة، بدأت النهاية. انفجر المكان بالصرخات، قبضات الحراس تنهال على جسد شاهين كأنهم يريدون محو وجوده من على وجه الأرض. كان يسقط، ثم ينهض، ثم يسقط مجددًا، مثل غريق يُقاوم أمواجًا أقوى منه.
في تلك اللحظة، أدرك شاهين أن الحذر، مهما بلغ، لا يُنجي أبدًا من القدر.