اخر الاخبار

في زمن تتسارع فيه التقنية و تتداخل فيه الحدود بين الانسان و الآلة تبرز ظاهرة مقلقة، وهي لجوء البعض الى تقنية الذكاء الاصطناعي لكتابة القصائد!! وكأن الشعر ,هذا الفعل الروحي العميق يمكن ان يُستعار او يُصنّع بضغطة زر.

و لما كان الشعر ليس مجرد تركيب لغوي أنيق، بل هو تجربة وجودية و صدق داخلي لا يمكن محاكاته بلا روح، مما يتطلب التأمل فيما يسببه ذلك من ازمة في الاصالة، و تحذير من مسخ الروح فيه حين نسمح للآلة ان تتكلم نيابة عن اعماقنا.

لقد اضحى الذكاء الاصطناعي ظاهرة تقنية و ثقافية غير مسبوقة , تتسلل الى حياتنا اليومية و تعيد تشكيل العديد من اشكال الإنتاج المعرفي و الفني، و يمكن القول ان الذكاء الاصطناعي اثبت فعاليته في ميادين عديدة الا ان تحوله الى كاتب شعرٍ يطرح إشكالات جذرية تتعلق بالاصالة و الروحية في الشعر، ذاك ان الشعر هو فعل وجودي روحاني لا يمكن اختزاله الى مجرد بناء لغوي او نمط صوتي بل هو تجربة تنبع من ذات معاناة و حيرة، تتحول فيها اللغة الى فضاء انفعالي تأملي حيث تتقاطع الذات مع العالم في لحظة إبداعية فريدة، يقول (ريلكه) في هذا السياق  "الشعر هو صرخة الروح داخل الصمت، ليس فقط كلمات تُجمع، بل تنفس روحي"، و هذا يجعل من الشعر انتاجا لا يمكن لمحاكاة حاسوبية ان تواكبه او تحل محله، فالقصائد المنتجة او المطعمة آليا,رغم دقتها الشكلية، تخلو من الحنين، الألم، الوجد، و الرهافة التي تشكل أبعاد الشعر الحقيقي  وهذا يؤدي الى تدهور الذوق الشعري و تشويه مفهوم الشعر كصوت فريد للذات.

لذا ينبغي ان نميز الشعر كأنجاز بشري خالص يحمل تجربة وجودية و تعبيرا عن الحضور الذاتي، و بين ذلك (ما يسمى بالشعر) الذي يهذر به الذكاء الاصطناعي من قبل شعراء تجاوزوا على بهاء و مهنية القصيدة  و الذي هو تكرار لخوارزميات لغوية فارغة من المعنى العميق. 

ان هذا التمييز يطرح إشكالات جمالية و أخلاقية وفق التساؤلات التالية :

جماليا، هل يمكن اعتبار نصوص الذكاء الاصطناعي شعر فعلا إذا فقدت البعد الإنساني؟

 اما أخلاقيا، ماهي المسؤولية الأدبية تجاه جمهور الشعر الذي قد يُظلل بأعمال ليست سوى منتجات برمجية جاهزة.؟

لو أجرينا مقارنة بأختيار نماذج منجزات شعرية اصيلة لشعراء اصلاء و بين المنجز نفسه بعد إدخاله الى (مطبخ الذكاء الاصطناعي) لوجدنا الفارق بين شعر تسير في شرايينه الدماء و شعر و نفس الشعر (منزوع الدسم) الذي انتجه الاخر.. مثلا مقطع من قصيدة محمود درويش قال فيها "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" نلاحظ الكم الكبير من الصدق العاطفي و الارتباط الوجداني بالذات و الوطن. في حين لو ادخلنا هذا النص في حاضنة الذكاء الاصطناعي لتولد النص التالي

"في الأرض التي تسكنها الأرواح، يشرق القمر بأنواره الباردة"!! نلاحظ انه نص بهيئة شعرية لكنه يخلو من المعنى الإنساني العميق، و هو مجرد تركيب لغوي لا غير .

من جانب آخر و لغرض لا نغبن حق هذا الاختراع المبهر واستثماره بشكل امثل، يجب النظر الى الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للشاعر، في البحث و التنظيم و الدراسات النقدية و ليس كبديل للذات الشعرية او كاتب القصيدة و ان إعادة تأكيد هذا التمييز ضرورة لعدم المساس بقدسية الشعر كفعل روحي و انساني، ذلك لأن أهمية هذا الموضوع لا تقتصر على حدود الابداع الفردي او الأسئلة التقليدية، بل تتعداها الى ما هو اعمق و هو "ما هو مصير الذائقة الشعرية الجمعية ؟"

ففي ظل تسارع تقنيات توليد النصوص، هنالك خشية حقيقية من ان تستفحل الظاهرة و تصبح القاعدة لا الاستثناء، و مع كثرة ما ينشر على انه "شعر" دون وعي نقدي او تمحيص، يتآكل الحس الجمالي و تختزل التجربة الشعرية الى مجرد استهلاك لغوي فارغ، هذا التراكم الزائف قد يؤدي الى تدجين الذائقة الشعرية وتعويد الأذن و الروح على الإيقاع المصنوع بلا روح و المعنى المحايد بلا حرارة، و هنا تكمن الكارثة, لا في وجود الذكاء الاصطناعي، بل في غياب مقاومة نقدية جادة تحمي الشعر من الاستسهال و الانتحال .

ان انزياح الشعر نحو الإنتاج الآلي لا يمثل فقط تدهورا جماليا  بل تهديدا لجوهر انسانيتنا و ابداعنا الوجودي، و لا بد هنا من الإشارة ان النقد الادبي ملزم اليوم بالتصدي لهذه الظاهرة و إعادة التأكيد على قيمة الاصالة و التجربة الشخصية للشاعر و الحفاظ على الروحية التي تميزه عن أي انتاج آخر.