أصدر الكاتب الأمريكي هينتينكتون مطلع التسعينيات من القرن الماضي كتابه "صراع الحضارات" الذي يستشرف فيه القرن الواحد والعشرين كونه صراع ثقافي للحضارت، على العكس من القرن العشرين الذي كان فيه الصراع ايديولوجيا، بين الرأسمالية، والاشتراكية، وكان الاستشرف هذا هو صراع بين مجموعة من الحضارات من بينها الحضارة الاسلامية (الدول ذات الأغلبية المسلمة)، ناسيا ان الصراع منذ القرن الثامن عشر كان بين الدول المستعمَرة، ومنهم العرب المسلمين، وبين الدول الأوربية المستعمرة "بجر الميم"، وقد توج هذا الصراع في القرن العشرين الى الصراع الذي ستنقله عدد من الروايات.
منذ بداية القرن العشرين أصبح الطريق سالكا أمام كتاب الرواية المسافرين الى أوربا، فذهب الروائي المصري توفيق الحكيم (مواليد 1898) الى فرنسا ليدرس هناك. وذهب الروائي السوداني الطيب صالح (مواليد 1929) الى انكلترا ليدرس فيها. وذهب الروائي اللبناني سهيل إدريس (مواليد 1923) ليدرس في فرنسا. هؤلاء الثلاثة أكملوا دراستهم، وعادوا الى بلدانهم، فكتبوا رواياتهم إن كانت عن تجربة واقعية، أو كانت من الخيال، عن فكرة تجول في خاطرهم، وبدافع الاحساس بالفرق بين الحضارة في بلدانهم، وبين الحضارة عند الشعوب الأوربية التي درسوا فيها.
من المؤكد ان الحضارة الانجليزية، والحضارة الفرنسية، ليستا كالحضارة في البلدان العربية المسلمة التي جاء منها الكتاب الثلاثة، وهم مسلمون، إذ ان هذه الحضارة العربية الاسلامية، محكومة بتأثير الدين الاسلامي والتقاليد الشرقية، ذات الصفات الصحراوية البدوية فيما الحضارات الأوربية قد أبعدت الدين، وتركته في الكنائس. وأيضا هي حضارة من بيئة صناعية. فيها المطر، والبرد، قد ابعدت هذه الحضارة من بيئة الصحراء الجافة التي تؤثر في نفسية الانسان العربي التي يكون فيها الجو جافاً، ولا يترك عاداته التي شبّ عليها بسهولة، كالاغارة، والنهب، والسلب، والغيبيات التي تتحكم به.
ان هذه النصوص المختارة ستبين للقاريء الحصيف، الفرق بين الشرق، والحضارة العربية الاسلامية خاصة، الشرق المحافظ على تراثه، وعاداته، وأعرافه، وخصوصياته، الجيدة، والسيئة، والملتزم بالأمور الايمانية الغيبية، والغرب المتحرر، والمنفتح، وبعيد عن تأثيرات الدين عليه في الأمور العامة، والشخصية.
ان هذا الصراع بين الشرق الروحي، والمغلوب، وبين الغرب المادي والغالب، فيشير الى غلبة المادي للروحي، وهي فكرة ماركسية في أن الأولوية لما هو مادي، فهل كان الكتّاب الثلاثة ماركسيين في توجههم الفكري، أو انهم في لا شعورهم تنبض هذه الفكرة؟
أمامنا ثلاث روايات الأولى (عصفور من الشرق - 1938) للمصري توفيق الحكيم، والثانية للبناني سهيل إدريس رواية (الحي اللاتيني -1953). والثالثة رواية (موسم الهجرة الى الشمال – 1966) للسوداني الطيب صالح.
هذه الروايات رصدت الواقع الذي عاشه الانسان العربي المهزوم في حضارة مغايرة لحضارته التي تربى عليها، وهي حضارة الغرب، الحضارة الغالبة.
كتبت هذه النصوص تحت تأثير بقايا هيمنة الاستعمارين الانجليزي في مصر، والسودان، والفرنسي في لبنان. إذن، فالكتاب الثلاثة ينظرون الى شعوب تلك الدول على انها شعوب غالبة، فيما هم شعوب مغلوبة من قِبَلها، وفي النتيجة الحتمية لا يمكن أن يجتمع الشرق، والغرب تحت سقف واحد.
وسنناقش الروايات الثلاثة من خلال الموضوعات التالية:
- الأهداف.
- الهيمنة.
- علاقات الحب.
الأهداف:
لكل كاتب هدف يريد الوصول له فيما يكتب، وكذلك يريد ايصاله لقرائه، وأهداف الكتّاب الثلاثة فيما كتبوا تمثلت في الآتي:
- ان هدف رواية "عصفور من الشرق" هو اثبات إنه مهما تبدل مكان ذلك العصفور، الذي يرمز الى الرجل الشرقي - سيظل حاملًا بين أجنحته المرفرفة صورة الشرق الذي ولد وعاش فيه، فيعود له في نهاية المطاف بمفرده.
- فيما تهدف رواية "الحي اللاتيني" الى ان الشرقي، وخاصة العربي الشاب كمال لا تراب يصلح له إلا تراب أرض وطنه فيعود له بمفرده.
- أما رواية "موسم الهجرة الى الشمال" فهدفت الى تبيان ان العربي الأفريقي خاصة يفشل في التأقلم مع الحضارة الأوربية، فيفشل الشاب السوداني "مصطفى سعيد" في التأقلم مع الحضارة الأوربية في لندن رغم فحولته الأفريقية كما يوصف من قبل الانجليز أنفسهم، فيعود الى وطنه في النهاية، وبمفرده.
يقول مصطفى: ((المهم إنني عدت وبي شوق عظيم الى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. سبعة أعوام وأنا أحن اليهم وأحلم بهم)).
وحتما فإن بطلي الروايتين الأخريتين يشعرون الشعور ذاته.
الهيمنة:
يحاول بطل توفيق الحكيم الهيمنة على الفتاة التي يرتبط بعلاقة حب معها إلا ان تلك العلاقة تفشل فلا يمكنه الهيمنة عليها.
والأمر نفسه يحدث لبطل سهيل إدريس، فعندما يعود مرة ثانية لمن أحب ترفض الزواج منه، فلا يمكنه الهيمنة عليها.
وبطل الطيب صالح يخرج من كل علاقاته مع الفتيات بخفي حنين، وباللعنة، لا الهيمنة عليهن. كان ذكيا، وكان يوصف كالآلة، ودون ان ينسى عقله أبدا.
يخرج أبطال الروايات الثلاثة من أوربا خاليِي الوفاض، فهم لم يستطيعوا السيطرة، والهيمنة، على النساء، ولم يستردوا شيئا مما أخذه الأوربيون منهم حتى النساء على أقل تقدير، وظلوا مغلوبين كبلدانهم.
علاقات الحب:
- في "عصفور من الشرق" يقع محسن في قصة حب فاشلة مع الفتاة الفرنسية، إذ لا يُمكن أن يجتمع الشرق، والغرب بالقوة نفسها، فأحدهما الغالب، والآخر هو المغلوب، لأن المجتمعين، الشرقي، والغربي، يحملون الرواسب نفسها، من العصر الاستعماري.
- أما في "الحي اللاتيني" فيقع البطل "كمال" في حب فاشل لفتاة فرنسية. إذ ان "جانين مونرو" الشقراء دارسة الصحافة، ترى فيه عطيل الشرق، بينما يرى فيها هو الغرب الغالب ككل، فتبادله حبا صادقا ينتهي بحمل هذه الفتاة لجنين منه، أو من غيره. يترك البطل هذه الفتاة تحت تأثير تلك الرواسب، ويعود الى بلده لبنان.
يعود الى فرنسا مرة ثانية ليطلب يدها إلا انها ترفض الزواج منه، فيعود بشهادة الدكتوراه، أي العلم فقط، وهذا ما يجب ان يحصل عليه العربي من الغرب لا النفس البشرية، فالنفس الشرقية، والنفس الغربية، قطبان لا ينجذبان لبعضهما لما بينهما من تاريخ طويل بين الغالب والمغلوب.
- (موسم الهجرة الى الشمال) بدأت عند تشكل الوعي العربي بعد الحروب التحررية للأقطار العربية من نير الاستعمار، والتبعية. فلازمة الرواية "مستر سعيد، لعنة الله عليك" خاتمة لأي علاقة جنسية تحدث بين "مصطفى سعيد" وبين الانجليزيات، فانهن بمجرد أن تنتهي علاقتهن بمصطفى سعيد يقدمن على الانتحار بعد ان يتركن كلمات اللعنة تلك.
كان مصطفى يقول: ((أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي. ثم أسير الى صيد آخر)).
ويتابع القول في مكان آخر: ((ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة. كنت أحركها)).
فالعلاقات بين الشاب الشرقي، ومن ضمنه العربي، وبين الفتاة الأوربية، مهما تعددت، وتنوعت، تبقى محكومة بالفشل ما دامت الرواسب تلك التي تحدثنا عنها في السطور السابقة باقية في لا وعي الاثنين، وهي رواسب الغالب، والمغلوب.
فأبطال الروايات الثلاثة لم يستطيعوا الزواج من فتاة أوربية، أي السيطرة، والهيمنة، عليها كما في مفهوم الزواج الشرقي، العربي.
ان الشرق شرق، والغرب غرب، وهما لا يلتقيان لما في نفوس أبناء مجتمعاتهم من رواسب الماضي الأليم، كمجتمعات مغلوبة والهيمنة والسيطرة في نفوس أبناء المجتمعات الغربية كمجتمعات غالبة. ان الثلاثة دخلوا المجتمع الأوربي كأنهم غزاة.
ان الأبطال الثلاثة كانوا مثل مصطفى سعيد، كما قال عنه المدعي العام في محاكمته: (مصطفى يا حضرات المحلفين إنسان نبيل، استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه).