اخر الاخبار

في خضم الضجيج العالمي المتواطئ مع الحروب والتطهير العرقي، وفي زمن تتناسل فيه المآسي كأنها أخبار ثانوية، يأتي الفن عند براين كارلسون كفعل مقاومة جمالي وروحي إنساني بالمقام الأول، مستقل وبعيد عن أي تبعية أو أيديولوجيا. لوحة "الفتى في البطانية"، التي رسمها عام 2024 (أكريليك على قماش)، تأتي بمثابة شهادة بصرية على مأساة غزة، وتمثل تكثيفًا صارخًا لجسد الطفولة الفلسطينية الملقى على هامش الضمير العالمي.

الفن كصرخة أخلاقية

لا يقدم براين كارلسون في أعماله مشاهد توصيفية باردة، لكنه يضع المشاهد في مواجهة مشهد لا يمكن التهرب منه: في هذا العمل، جسد فتى، شاب صغير ملفوف ببطانية، وقد استحال وجوده الهش إلى رمز إنساني مؤلم. ليس هذا جسدًا ميتًا فحسب، بل صرخة مرئية في وجه كل أولئك الذين صمتوا.

البطانية: القماش الذي لا يحمي

تبدو بطانية في ظاهرها بينما هي ليست سوى غطاء وهمي، مجازيًا وجسديًا. قد تكون من القماش، لكنها لا تقي من الموت. نجدها تغلف الجسد الذي خذله العالم. الشاب الصغير لا يبدو نائمًا ولا حيًا تمامًا، ملامحه بين الحياة والموت، بين الغضب والانكسار، وجهه ليس مطمئنًا، بل يصرخ بعينين واسعتين: "لماذا؟ أنا وعشرات الآلاف نموت". في هذا المشهد، تعود فكرة المسيح المصلوب، ليس بوصفه مخلّصًا سماويًا، بل كرمز إنساني للخذلان الأكبر، حالة تتكرر كل يوم مئات المرات، وليست تاريخًا ولا حكاية دينية قديمة.

سيميائية اللون والضوء

يستخدم براين تدرجات داكنة في الخلفية لتأطير الفتى بلون الموت: رمادي، بنفسجي، أزرق داكن، كلها ألوان تعبّر عن البرد، الوحدة، والهلع. أما البطانية، بلونها الأبيض المائل للرمادي، فلا توحي بالسلام، بل بالتحلل. لا بياض مطمئن، بل بياض مريض، كأن الحياة قد انسحبت لتوها من الجسد.

الوجه في قلب المشهد

يركز براين بشدة على ملامح الوجوه في أغلب لوحاته، وفي هذه اللوحة يرسم وجه الضحية بدقة تؤلمنا. لا نجد بها ملامح احتضار تقليدية، بل وجهًا طفوليًا مدهوشًا، كأنه لم يصدق أن النهاية جاءت سريعًا، وأن العالم تخلّى عنه. هذه الملامح تشبه إلى حد ما وجوه الأطفال في لوحات عصر النهضة الدينية، ولكن من دون القداسة النمطية المزخرفة؛ هنا الطفل إلهي لأنه إنساني، لأنه شهيد المعنى، لأنه لم يحمل سلاحًا ويرغب في الحياة.

البنية الرمزية: من الفرد إلى الكوني

الطفل الفلسطيني هنا لا يمثّل نفسه فقط، بل يحمل داخل البطانية جراح غزة، اليمن، سوريا، العراق، وجراح الطفولة في قوارب الموت، في مخيمات اللجوء، وفي أزقة المدن المنسية. البطانية تتحول إلى كفن رمزي للعصر، إلى ملاءة خزي تفضح عورات العالم.

بين العزلة والصمت

براين لا يمنح المتلقي فرصة لتلطيف المشهد. لا مشاعر مرتبة، لا مؤثرات درامية مصطنعة. فقط جسد واحد وصمت كثيف. لا نجد في اللوحة شخوصًا أخرى، لا أم تبكي، لا أب يتكئ على الحائط. الطفل وحده، والصمت يُكمل الجريمة.

الفن كوثيقة مضادة للنسيان

ينجح براين في بناء ما يمكن تسميته "وثيقة ألم". الصورة / استعارة دائمة للخذلان. وهذه اللوحة، كغيرها من أعماله، أكبر من إدانة للقاتل، هي لنا جميعًا، للمُتفرج، للمتواطئ، للمنشغل بتفاهات يومية بينما الدماء تُسكب.

براين يرى أن الموت اليومي لا يكتمل إلا عندما نصمت. لذا، يعيد خلق هذه المشاهد، لا بنقل حرفي للصور، ولكن بتحويلها إلى رمز إنساني، إلى سؤال كبير لا يمكن تجاهله.

خاتمة: الفن كقوة خلاصية

"الفتى في البطانية"، إنها فعل ومواجهة مريرة بين الفن والعالم. براين كارلسون لا يدّعي أنه يغيّر العالم، لكنه يكتب على الجدران المهملة:

"كان هناك طفل... ولم تنقذوه."

"كانت هناك امرأة... ولم تنقذوها."

هذا الفن لا ترحب به قاعات المتاحف الباردة. براين يرسم في الوجدان، في القلب، في جدار كل من لا يزال يؤمن أن الطفولة لا يجب أن تُقتل، ولا أن تُكفَّن قبل أوانها.

هذا الفتى ومئات الآلاف من أمثاله يستحقون الحياة، فهم لم يُستشاروا في هذه الصراعات والحروب.

يستحقون الحياة الكريمة والسلام العادل.

لكن العالم يخذلهم ويدعم سعير الصراعات ووسائل الموت العنيف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب ومخرج سينمائي يمني يقيم في باريس