ضنّتْ كتبُ الأدبِ بالحديثِ عن نشأةِ النابغة الذُّبيانيّ، مثلما ضنّتْ بالحديث عن نشأة غيرهِ من الشعراء القدماء؛ فأغفلتِ الموضعَ الذي تُنسجُ فيه عناصرُ النفسِ وأركانُها ، ويكونُ لها، من بعدُ، مددًا في بناءِ الرؤية وإنشاء الموقف. وإنّما كلُّ ما جاءت به تلك الكتبُ هو شعرُهم ، وبعضُ أخبارِهم حين يظهر أمرُهم، ويستوي الشعرُ على ألسنتهم؛ ولو عرفنا النشأةَ وعناصرَها لكانت لنا مادّةٌ سنيّةٌ تفسّر، بنحو ما، مناحيَ الشعرِ عندهم، ومذاهبَهم في الأخذِ به، ونوازعَهم التي تنزع بهم إليه؛ ذلك أنّ الشعرَ، في حاقِّ أمره، مغموسٌ في طيّات النفسِ، مختلطٌ بنسيجها؛ ينبثق عنها كلّما أراد أن ينبثق.
على أنّ كتبَ الأدب، حين تحدّثت عن النّابغةِ قالت:"هو أحدُ الأشراف الذين غضَّ الشعرُ منهم . وهو من الطبقة الأولى المقدّمين على سائر الشعراء." وقالت: إنّه كان يتقلّب بين الغساسنةِ في الشام، والمناذرةِ في العراق ، وإنّه كان سفيرَ قومه كلّما اقتضى الأمرُ سفارةً . وإنّ رباطًا وثيقًا كان بينه وبين النُّعمان بنِ المنذر؛ إذ كان يمدحُه فيُجيدُ مدحَه، وكان النُّعمانُ يُجيزُه فيُعْظمُ جائزتَه. وقالت: إنّه كان، من أجل ذلك، محسّدًا، يسعى به أعداؤه عند الملك، ويُدير الوشاةُ الكلامَ عنه صدقًا وكذبًا، وينالون منه؛ فكان أن أحفظوا النعمانَ عليه، وشحنوه موجدةً؛ فأخذ ما بين الشاعرِ والملكِ يهي، وشرعَ الحبلُ يرثُّ؛ فانقلبتِ المودّةُ معاداةً، وصار الصفو كدرًا؛ حتّى إذا استعلن الأمر خشيَ الشاعرُ فاستخفى من الملك، ولاذ بدياره التي أتى منها، ثمّ أنشأ يعتذر ويطلب الرضا .
ولقد كان للنّابغة أن يقطعَ ما بينه وبين النعمانِ، وأن يدعَه في شأنه، وأن يظلَّ في محيط قبيلته وهو سيّدٌ من سادتها موفورُ الكرامة فيها، وكان له أن يجدَ عند الغساسنةِ ما يحبُّ من صحبة الملوك ، وهم أهلُ حفاوةٍ به وإقبالٍ عليه؛ لكنّ غضبَ النُّعمان ظلّ يُقلقه، ويشرّدُ نومَه، ويبعثُ المخاوف في نفسه؛ فأخذ يعتذر، ويقول القصيدةَ تلو القصيدة مادحًا معتذرًا ، يُريد أنّ يردَّ النعمانَ إلى الرضا، ويمحو السخيمةَ من نفسه. وقد عُرفت قصائدُه تلك بالاعتذاريّات، واشتهرت في الأدب العربيّ كلّه، وحازت المنزلةَ الرفيعة في بابٍ قلّ من ولج فيه من الشعراء حتّى صار النابغةُ بها سيّدَ الاعتذار البصيرَ بمداخله ، ومواضعِ الإجادة فيه . فلقد قال فيه :
أُنبِئتُ أنّ أبا قابُوسَ أوعدني ...
ولا قَرارَ على زأرٍ من الأسدِ
مهلًا فِــداءً لكَ الأقــوامُ كلُّــهمُ ...
ومـا أُثَمّرُ مـن مـالٍ ومـن ولـدِ
لا تقذِفَنّي برُكــنٍ لا كفاءَ لــه ...
وإن تـأَثّفــــَكَ الأعــــداءُ بالـرفــــدِ
وقد جعل الأبيات قائمةً على مزيجٍ من المحبّة والمَخافة بحيث لا تنفصل إحداهما من الأخرى، وظلّ ، من بعد، كلّما اعتذر إلى النعمان أقام اعتذاره عليهما معًا ؛ إذ يختلج في نفسه، إزاءَه ، الحبُّ والخوفُ؛ وقلّما كان ذلك لشاعر مع ممدوح !
وقال في قصيدة أخرى وقد استبدّ به هَمٌّ شاغلٌ فأخذ في تبيّنِ أسبابه :
وقــد حـــالَ هَـمٌّ دون ذلكَ شـــاغلٌ ... مكــانَ الشغافِ تبتَغيهِ الأصابِـعُ
وعيدُ أبي قابوسَ في غير كُنههِ ...
أتاني ودوني راكـــسٌ فالضواجـعُ
فبِتُّ كأنّي ساورتنـي ضئيـــــلــةٌ ... من الرُّقْش في أنيابها السُّم ناقعُِ
فإذا بها الخوفُ من وعيد أبي قابوسَ يُقِضُّ مضجَعه ، ويردّ عنه النومَ ، على بُعْدِ ما يفصلُه عن النُّعمان من أرضٍ شاسعةٍ ممتدّة يحجزه فيها عنه راكسٌ والضواجع ؛ فلا يملك ، مع كلِّ ما يتخلّجه ، إلّا أن يظلَّ يتّخذُ إليه الوسيلةَ تلوَ الوسيلة لكي يرضى ، ويجعلَه بحيث كان عنده :
فـــلا تترُكَنِّـــي بالوعيــــد كــأنّنـــــي ... إلـى الناسِ مَطْلِيٌّ به القارُ أجربُ
ألــم تَرَ أنّ الله أعطــاك سَــــورَةً ... تــــــرى كــــــــلَّ مـــَلْـــكٍ دُونَـــها يتَـــذَبْــذَبُ
بأنّك شمــسٌ والملوكُ كــواكبٌ ... إذا طَلَـــعتْ لــــم يَبدُ منـــهُن كــــــوكـبُ
وفي موضع آخر يبدو له النعمانُ كأنّه نهرُ الفرات في طُغيانه المتدفّقِ المُخيفِ ، وفي سَيبه الغزير :
فمــــــا الفُـــــــراتُ إذا هبّ الرياحُ له ... ترمــــي غــــــواربُـــه العِبْــــرَينِ بالـــزَّبَــــدِ
يمــــــــدُّه كـــــــــــلُّ وادٍ مُتْـــــرَعٍ لـــَجِــــــبٍ ... فيـــه رُكـــامٌ مــــن اليَنْبــــوتِ والخَضَــدِ
يظَلُّ من خَوفهِ الملّاحُ مُعتصِمًا ...
بالخَيزُرانةِ بـعدَ الأَينِ والنَــّجَدِ
يومًا بأجودَ منه سَـيبَ نافلةٍ...
ولا يحولُ عَطاءُ اليومِ دُونَ غدِ
وظلّ النابغةُ يرجو أن يُرضي النعمانَ ، وأن يمحوَ من نفسه الغضبَ ؛ لكن لِمَ أراد ذلك وأوقفَ كثيرًا من شعره عليه ؟
أهو الخوفُ من النعمان ؟ ، أم الطمعُ في جوائزه ؟ ، أم شيء آخر كان يُقلق الشّاعرَ، ويجعلُه يسعى لحيازة الرضا ، واسترجاع المودّة ؟
" قال أبو عبيدة : قيل لأبي عمرو : أفمن مخافتهِ امتدحه وأتاه بعد هربهِ منه أم لغيرِ ذلك ؟ فقال : لا لعَمرُ اللهِ ما لمخافته فعل ؛ إنْ كان لآمنًا من أن يوجِّه النعمانُ له جيشًا ، وما كانت عشيرتُه لِتُسلمه لأوّل وهلةٍ ، ولكنّه رغِب في عطاياه وعصافيره . وكان النابغة يأكلُ ويشرب في آنيةِ الفضّةِ والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجدّه ، لا يستعملُ غيرَ ذلك ."
وكان لهذا القول أن يستقيمَ ، وأن يفسّر حرصَ النابغةِ على رضا النُّعمان ؛ لولا أنّ النابغةَ ، حين انتهى إليه نبأُ مرضِ النعمان، فزِع ، وارتاع ، وضاقت به الأرض ، وأنشأ يقول :
كَتَمتُكَ ليلًا بالجَمُومينِ ساهرًا...
وهمّيـــــنِ همًّا مُستـكِنًّا وظاهِرا
أحاديثَ نفسٍ تشتكي ما يَريبُها ...
ووِردَ هُمُومٍ لن يَجِـــدنَ مصادِرا
تُكَلِّفُني أن يُغفلَ الدهرُ همّــَها ...
وهل وجدَتْ قبلي على الدهرِ قادِرا
ألَمْ ترَ خيرَ الناسِ أصبحَ نعشُه ...
على فتيــــةٍ قــد جاوزَ الحـــيَّ سـائِرا
ونحنُ لديه نسألُ اللهَ خُلدَه ...
يردُّ لنا مُلكًا ولــــلأرضِ عامِرا
وليس بخافٍ ما وراء هذه الأبيات من حبٍّ وأشفاق ؛ على أنّه ، حين سمِع النبأ، لم يستقرّ به مكانٌ حتّى جاء إلى قصر النُّعمان، ووقف على حاجبه عصام وجِلًا ملتاعًا يقول:
ألمْ أُقسِمْ عليكَ لَتُخبرَنّي ...
أمحمولٌ على النعشِ الهُمامُ
فإنّي لا ألومُك في دخولي...
ولكنْ ما وراءك يا عصامُ
فإن يهلِكْ أبو قابوسَ يهلِكْ ...
ربيعُ النـاسِ والشهرُ الحرامُ
ونُمسكُ بعده بذُنابِ عيشٍ ...
أجبَّ الظَّهر ليـس له سَنامُ
وكان من القدماء من يقول : " إنّ السببَ في رجوعهِ إلى النعمانِ بعدَ هربهِ منه أنّه بلغَه أنّه عليلٌ لا يُرجى ؛ فأقلقَه ذلك ، ولم يملِكْ الصبرَ على البُعد عنه مع علّته وما خافه عليه ، وأشفق من حدوثه به ، فصار إليه وألفاه محمولًا على سريره يُنقل ما بين الغَمر وقصور الحيرة ."
فليس الخوفُ المحضُ ، أو الطمعُ الصرف كان يحكمُ ما بين النّابغةِ والنُّعمان ؛ وإنّما قصائده في اعتذاره تنبئ عن خوفٍ يمازجه حبّ ، وعن حبٍّ يتهدّده خوف ؛ ولعلّ من وراء ذلك أنّ النّابغةَ رأى في النُّعمان وهيبته وعطائه ودنوّه منه ؛ صورةً قديمةً موغلةً في الماضي البعيد كان يحبّها ويخشاها ، فأراد أن يستعيدَها ، وأن يلمّ أطرافَها المنتشرة في شخص النُّعمان ! أكاد أقول إنّها صورةُ أبيه الضائعةُ في جنبات الزمان !
أفيكون في ذلك ما يفسّر الخوفَ والحبَّ والإشفاق ، والحرصَ الحريصَ على الرضا ... ؟!