اخر الاخبار

صرت أخاف من «الفيسبوك»، كالخوف القديم في موسكو عندما يطرق عامل البريد الباب ويهتف من ورائه: برقية!

عندها أعرف أنه يحمل مصيبة، فلا أحد يبعث لي برقية من العراق بخبر سارٍّ أبدًا.

هكذا ودعنا أحباؤنا، كأوراق الخريف، في كل فصل ترحل قطعة من أكبادنا، وعلينا لثم الجراح وتضميدها وإكمال الصراع بما تبقى. لطالما أحببت شعر الصديق كزار حنتوش، واعتبرته مزيجاً من ويتمان ولوركا وأراغون والبيرتي، لغاية ظهور الراحل العزيز موفق محمد بأحاسيسه الصادقة والعبقرية الفطرية القريبة من الروح الشعبية التي أحالتنا إلى الشعر الذي خلدته الأشجار وجدران الكهوف وألواح الشعراء المجهولين. وهكذا سار بطريق الأبدية، لأنها تعرف كيف تختار شعراءها. إنها أبدية.. وتحدٍ ضد الإنتروبيا*، شرارة ترفض الموت. الإبداع هو تذوق الخلود.

كلنا نخشى الوحدة والجنون والموت، لكن شكسبير ورامبو وبودلير وريلكه والسياب، لم يعالجوا تلك المخاوف، غير أنهم حوّلوا النار إلى نور، ومع غيرهم من الأفذاذ منحونا طريقة للنظر إلى العالم. فالشعراء هم من يقررون ما تبقى.

الشعر الخالد، لا يولد من الأفكار الكبرى وإنما من الوساوس الهشة والفوضى الهاذية. الطائر.. لا يفكر بالموت الوشيك، لن يلقي اللوم على الأشواك ويتحجّج باليباس، سيجد نبعه وحقله وسيبقى يغني حتى يجفّ صوته وتتوقّف أنفاسه، تمامًا.. مثل الشاعر.. يستمر في الشدو إلى الأبد. سأل مارك ستراند، في كتابه: «عاصفة ثلجية واحدة»: «أخبروني، أيها الناس، ما الشعر أصلًا؟ هل يموت أحدٌ دون قليلٍ منه؟».

لقد كان الحضور الحقيقي لموفق في شعر العالم وليس في الشعر العراقي فحسب، فهو زاد من مقاومته حتى الموت الكامل. إنه هدية من أرضنا المعطاءة واعتقد أننا اغتنمناها وكنا شاكرين لها. أدرك أن هذا النمط من الشعراء كانوا هدية الزمن، وإنهم كانوا هدية بلا مقابل. إنهم شيء استمتعنا بوجوده وساعد الآخرين على فهم الشعر والمشاعر التي لا يستطيعون إيجاد طريقة للتعبير عنها.

إن نموذج الحضور الرائع والغياب الحزين، تناقلناه من جيل إلى جيل. حيث يبكي كوليردج، من بين آخرين، في مونوديا عن موت تشاترتون، العبقري الذي سقط مبكرًا «أنا أبكي لأن العبقرية المولودة في السماء يجب أن تسقط»، ويستنكر كيتس هذا المصير الحزين ويأسف على ذلك. جاء الموت ليحجب إلى الأبد هذه العين التي أضاءتها العبقرية «يا تشاترتون! كم هو حزين جدًا مصيرك! / عزيزي طفل الحزن – ابن البؤس! / متى حجب فيلم الموت تلك العين».

ولكن رثاء العبقرية المأخوذة من الحياة، والتي تحولت إلى أسطورة رومانسية حقيقية للشعراء الصادقين، هو الحق الذي يجب أن يعيشه. والخبز الذي علينا أن نفتته على مرقده. السبب هو الموت الذي أُجبرني على تقديمه.

نحن نتحدث عن شاعر يتم تعريفه من خلال التفرد. وفوق كل شيء، يمكننا أن نقول اليوم إن التفرّد لم يكن مربحًا وإن راقت الأبيات الجميلة للناس العاديين.

أتنهد بسبب افتقاري إلى العديد من الأصدقاء الذين لم «أشبع» من اللقاء معهم، ومع أحزاني القديمة، أودّع «موفق» بالسونيتة الـ30 لشكبير بترجمتي، كأنين الوقت الضائع:

«ثم هل يمكنني أن أغرق عينًا لم تعتد على التدفق، لأصدقاء أعزاء اختبأوا في ليلة الموت التي لا موعد لها،

وأبكي من جديد على حزن الحب الذي ألغي منذ زمن طويل،

وأئن على حساب العديد من المشاهد التي اختفت.

ثم هل يمكنني أن أحزن على المظالم التي فاتتني،

وأروي بثقل من حزن إلى حزن عن

الرواية الحزينة عن حزني السابق،

الذي كنت أدفع ثمنه كما لو لم أدفعه من قبل.

ولكن إذا فكرت فيك، يا صديقي العزيز،

فسأعوض كل الخسائر وتنتهي الأحزان.

*

كنت أرى «موفق» ينتظر الموت بين الزهور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الانتروبيا: حالة ينحرف فيها الجفن نحو مقلة العين مما يسبب تهيجاً وانزعاجاً في القرنية.