اخر الاخبار

كان الاتحاد الذي بنته وكالة المخابرات المركزية - والذي يتكون مما وصفه هنري كيسنجر بأنه "أرستقراطية مكرسة لخدمة هذه الأمة نيابة عن مبادئ تتجاوز الحزبية" - هو السلاح الخفي في صراع أمريكا في الحرب الباردة، وهو سلاح كان له، في المجال الثقافي، تداعيات واسعة النطاق. لصالح الغرب، باسم حرية التعبير. وبوصفها الحرب الباردة بأنها "معركةٌ على عقول الرجال"، خزّنت ترسانةً هائلةً من الأسلحة الثقافية؛ مجلاتٍ وكتبًا ومؤتمراتٍ وندواتٍ ومعارضَ فنيةً وحفلاتٍ موسيقيةً وجوائز. حيث تطرح المؤلفة معتمدة على عدد كبير من المقابلات الشخصية وفحص عدد كبير من الوثائق الرسمية التي أفرج عنها مؤخرا و تظهر أسماء عدد كبير من أبرز مفكري وفناني المرحلة البعض تعاون دون ان يدري وكان البعض الآخر يعمل عن علم واستعداد للتعاون.

في دراسة تقويمية وتحت عنوان (مجلة شعر اللبنانية ... مدخل الى دراسة تقويمية) يطرح الاستاذ سامي مهدي في مجلة "الأقلام" في عددها الصادر في أيلول 1987 ضمن مناقشة الاطار الفني للمجلة يذكر سامي مهدي : حين صدرت مجلة شعر سنة 1957 كانت ثمة حركة شعرية جديدة ونشيطة انبعثت من العراق، وامتدت الى أقطار عربية أخرى منها لبنان. فقد تمكن بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري من تحطيم الشكل التقليدي للقصيدة العربية، وفتح الباب على مصراعيه لأشكال شعرية جديدة. صحيح ان هذه الحركة كانت ما تزال تقاوم من جانب العقليات التقليدية والمحافظة الا ان هذه المقاومة كانت  في ذلك الحين قد ضعفت كثيرا .ويمكن تميز اتجاهين  سياسيين في تجمع مجلة شعر هما:

  1. أتجاه قومي سوري (نسبة الى الحزب القومي السوري) وهو الاتجاه الذي غلب على المجلة منذ بداية صدورها حتى مرحلة متقدمة من حياتها وينتمي الى الاتجاه الاول (يوسف الخال و اودونيس ونذير عظمة وفؤاد رفقة وخالدة سعيد ومنير بشور ومحمد الماغوط واخرون).
  2. أتجاه اقليمي لبناني وهو الاتجاه الذي بدأ مع بداية المجلة ثم نما مرحلة بعد اخرى حتى غلب عليها في المرحلة الاخيرة من حياتها. وينتمي الى هذا الاتجاه كل من (أنسي الحاج وشوقي ابو شقرا وعصام محفوظ واسعد رزوق وغيرهم ).

وعلى الرغم مما بين الاتجاهين أعلاه (خارج المجلة) من خلافات فكرية عميقة وخصومات سياسية مستمرة وصلت الى العنف التقيا في المجلة وتعاونا معا على اصدارها. اذ كان هناك ما يجمع الاتجاهين على المستويين السياسي والفكري وعلى وفق الأتي:

  1. المستوى السياسي : كان الاتجاهان يتفقان اتفاقا تاما على معادات فكرة (العروبة) وكل ما يمت اليها من أهداف وشعارات وقوى سياسية ، ولا يعترفان بوجود (امة عربية)، وينظران الى تاريخها وتراثها نظرة مغرقة في السلبية.
  2. المستوى الفكري: جمعت الطرفين اتجاهاتها اليمينية ونزوعها الشديد الى التغريب (نسبة الى الغرب) والتشبث بأطراف الدعوات الليبرالية في مواجهة ما يعتبرانه (قمعا عنصريا وطائفيا).

على هذه الارضية التقى تجمع مجلة شعر وعلى الارضية نفسها استقطبوا العناصر المعادية للعروبة ، ومن انسجم معهم من ذوي النزعات الاقليمية والطائفية في لبنان والوطن العربي ،ومن راقت لهم اتجاهاتهم من ذوي الاتجاهات اليمينية ودعاة التغرب والليبرالية، ويمكن استثناء الذين أغوته اتجاهاتهم الفنية ، او من طمع في ذيوع شهرة، او من راقته علاقته بهم كل الوقت أو بعضه (ولم يكن لهم دور داخل المجلة).

يجد سامي مهدي ان تجمع مجلة "شعر" كان يدعي خلاف ما يمارس كان يرفض

(السياسة) و(الايديولوجية ) وهو مسيس ومؤدلج الى عنقه بل كان هذا التجمع يعمل عمل حزب سياسي كامل : مجلة ، وندوة أسبوعية ، ودار نشر تصدر كتبا ذات لون خاص وجوائز تمنحها المجلة وامتداد الى الصحف اليومية ومبشرون ومراسلون واتصالات عربية وعالمية فالمجلة تدعو الاخرين فقط الى شعر بلا رسالة والى التنصل من التزاماتهم ومن القضايا التي يؤمنون بها وتقبل التزاما من نمط أخر وايمانا بقضايا أخرى.

وقعت المجلة تحت مجموعة من الأزمات التي قادت توقف مجلة شعر للمرة الأولى عن الصدور في آخر سنة 1964، بعد أن أصدرت خلال ثماني سنوات 32 عددًا وقسمًا لا يستهان به من المؤلفات الأدبية، وأن جزءًا منها جاء للتعريف بالأدب الإنكليزي عامة والأميركي خاصة. وعادت مجلة شعر إلى الصدور في صيف 1967، بعد توقف دام ثلاث سنوات (1964 1967-)، وكان صدورها هذه المرة عن دار النهار التي تولّى الخال الشؤون الثقافية فيها، إضافة إلى رئاسة تحرير المجلة. وصدرت المجلة بهيئة التحرير نفسها باستثناء الشاعر أدونيس، وبابتعاد خليل حاوي والناقدة خالدة سعيد والشاعر محمد الماغوط وكتّاب آخرين عن المجلة.

يجد الاستاذ حاتم الصكر بخصوص  توقف المجلة :لم يكن الخصوم وحدهم سبب توقف المجلة الأول خريف عام 1964، بل كانت المجموعة ذاتها تعاني مشكلات داخلية، اعترف ببعضها يوسف الخال (رئيس التحرير) في بيان التوقف الأول ، ومنها حاجز اللغة بين المجلة وقرائها وبين قصيدة النثر والمتلقي، ولكن التوليف الفكري للمجموعة وتباين منطلقاتها رغم التمامها الظاهري حول المشروع كان سببا أكثر أثرا في التوقف وتعثر المشروع التحديثي، الأمر الذي تغفله كثير من الدراسات التي تناولت تجربة المجلة ومشروعها ،رغم اعتراف أفراد المجموعة نفسها بذلك ، فجبرا إبراهيم جبرا لا يصنف كتابته الشعرية ضمن ( قصيدة النثر ) بل يسميها ( الشعر الحر ) بالمصطلح الغربي السليم ويدرج شعر توفيق صايغ والماغوط ضمنه ، وهو ما نبّه إليه الدكتور عبدالواحد لؤلؤة في دراساته المبكرة حول قصيدة النثر ، بينما ينتمي عدد من شعراء المجموعة لميراث قصيدة النثر الفرنسية ذات التمركز اللغوي وإغفال المعنى ، مقابل إنتاج علاقات لغوية غريبة وبنى صورية صادمة –كما في شعر أنسي الحاج وأبي شقرا، ومن الجماعة من لم يهمل الوزنية تماما مثل فؤاد رفقة.

أما في المنظور الرؤيوي فثمة متدينون ودنيويون، إليوتيون وبودليريون، وفي الموقف من التراث هناك من يصرخ ويصرح بأنه لا تراث له وأنه خارج الموروث كله، بينما تفرد المجلة وبتأثير مباشر من أدونيس صفحات من كل عدد لمختارات من الشعر العربي القديم، كانت نواة قراءته المعمقة للموروث الشعري التي نتج عنها كتابه المهم ديوان الشعر العربي.

ولعل أكثر الجنايات التحديثية فداحة هو ما بشّرت به المجلة بحماسة غريبة لأفكار سوزان برنار في أطروحتها عن "قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا"، وليس الخطأ في تبني أفكار برنار والقوانين التي استقرأتها من متابعة التحديث في أدب لغتها الفرنسية ، بل في التلخيص المخل الذي صنعه كتًاب المجلة لتلك الأفكار والصنمية التي منحوها لها.لم تغب عن عقل محرري المجلة وأصدقائهم تلك التباينات فراحوا يمهدون لأرض مشتركة لتقبل تجاربهم المتنوعة، فاهتموا –كل عدد- بتقديم ترجمات مطولة لشاعر غربي حداثوي، ولم يمنع تباين الحاضنات الفكرية لهم من الالتقاء حول سلالة متمردة، ترضي القادمين من الثقافة الإنكلو-سكسونية كجبرا وصايغ والخال، والفرانكفونيين كأدونيس وأنسي الحاج وأبي شقرا ،كما حرصوا على تقديم الثقافة المتنوعة لا الشعرية فحسب، فظهرت الاهتمامات بالتشكيل والدراما في إشارة لحاجة قارئهم الجديد لتلك الفنون في كتابتهم الشعرية.

لكن ذلك لم يخفف من الهجوم على المجلة التي اتهمتها نازك الملائكة مثلا بأنها مجلة تصدر ببيروت ( بلغةٍ عربية وروحٍ غربية) وبأن تجارب شعرائها ونصوصهم( بدعة غريبة) حتى استحال معنى كلمة شعر عندهم كما تعتقد ( إلى التعبير عن النثر) واستفزها بخاصة وضع المجلة كلمة ( شعر ) على كتب ترى نازك أنها تحوي نثرا لا شعرا كديوان الماغوط (حزن في ضوء القمر).ولعل إصدارات المجلة وجوائزها التي فاز ديوان السياب( أنشودة المطر) بإحداها عام 1960دليل طموح المجموعة والمجلة ، إذ لم تكتف بالإصدار الفصلي لها أو بالندوات وتعدت ذلك إلى المنشورات التي تحمل اسم( دار شعر) الحاضنة للمجلة.

وهنا وبعد أشارة الصكر لكتاب(سوزان برنار/ قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن) الذي يعد المصدر الذي يتصدر اهتمام جماعة (مجلة شعر) وكما جاء في مقدمة الكتاب بترجمته العربية الصادر عن (دارشرقيات للترجمة والنشر سنة 1998في القاهرة) في تبنيه ضمن موقف جماعي إجماعي من كتّاب (مجلة شعر) باعتماد مفاهيمه - من قبل واحدة من أهم الحركات الشعرية في القرن العشرين – اعتمادا مطلقا ليتحول الى إنجيل الجماعة المقدس .ففي العدد 14 من مجلة شعر / ربيع 1960 ترد الإشارة الأولى الى الكتاب في مقال لأودنيس حمل عنوان في قصيدة النثر. فضلا عن أشارة أنسي الحاج في مقدمة ديوانه (لن)1960 . باستعادة حرفية لمفاهيم ومصطلحات سوزان برنار. ويتكرر ذكر الكتاب من قبل جماعة مجلة شعر علما ان تاريخ صدور الكتاب هو 1958، وصدور اول عدد للمجلة هو 1957، فلا يمكن ترك هذا التوقيت للصدفة التاريخية فقط، وكأنما المجلة والجماعة كانتا في أنتظار الكتاب من أجل تأسيس نظري لقصيدة النثر.  فما أكثر الأسئلة ..... وما أقل الإجابات.

وبهذا فنحن امام تجربة ثقافية – ادبية ارتبطت بمخرجات الحرب الباردة من خلال صلة (مجلة شعر) بالمنظمة العالمية لحرية الثقافة جعل المجلة  تتجاوز عن كونها مجلة ادبية الى حركة شعرية جعلت محاورها تخرج عن ادوارها الثقافية في غاية رسالة الشاعر ضمن (الادب الملتزم ) و موقفها من التراث العربي في تبني الاتجاهات الشعرية الحديثة ضمن الخروج عن الموروث الثقافي العربي وموقفها من اللغة العربية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*هامش المحرر الثقافي: عن دار المأمون في وزارة الثقافة/ بغداد، صدر مؤخراً كتاب بعنوان "شعراء الحرب الباردة" ترجمة وتوثيق جمال جمعة، يتناول تفاصيل عن مجلات المنظمة العالمية لحرية الثقافة وبخاصة مجلة شعر، حوار، ادب.. والمواقف المتعلقة بها.. لا غنى عن قراءته تواصلاً مع الدراسة الواردة أعلاه.

عرض مقالات: