تعد مجلة شعر من المجلات التي كان لها النصيب الأوفر في ان تكون في مقدمة المجلات التي يتعذر الخوض في التعرف على ادوارها دون التطرق الى العامل السياسي في الزمن التي صدرت فيه ضمن ما يعرف بالحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي و الغربي. كما يتعذر طرح جميع الآراء والمواقف. هنا سيتم عرض أهم هذه الآراء والمواقف.
حمل العدد الاول من مجلة "شعر" الذي صدر في بيروت في كانون الثاني 1957 في صفحتها الثانية تعريفا للمجلة حيث جاء في هذا التعريف ( مجلة أدبية شهرية تصدر في أربعة أجزاء في السنة مؤقتًا - كانون الأول، نيسان، تموز، أيلول.رئيس التحرير: يوسف الخال. المدير المسؤول كمال الغريب). جاء تقديم المجلة بصفحتيها (3و4) لـ(أرشيبالد ماكليش 1892 - 1982)، مساعد وزير الخارجية الأمريكي(خلال الحرب العالمية الثانية) للشؤون العامة والكاتب و الشاعر والناقد والمسرحي الأمريكي الذي يرتبط اسمه بالمدرسة الشعرية الحداثية. ولم يتم الأشارة الى ان هذه المقدمة أ كتبت لمجلة "شعر" أو جاءت اقتباسا من احدى نتاجاته النقدية (محاضراته ) ولاسيما وهذه المحاضرات ضمها كتابه الموسوم بـ (الشعر والتجربة) والصادر عام 1961. لقد تضمنت المقدمة الآتي :
- يسود رأي يقول : ان الشعر ، مهما كان في الماضي ليس اليوم ، وهذا الرأي يمثل رأي بائس ، فالشعر في الحقيقة خلاف ذلك تماما.فـ(علاقة الشعر بالحياة هي العلاقة التي وصفها ارسطو والتي عاد اليها الشاعر(وردزورث) ولو بشئ من الفرق ،بان الشعر وسيلة للمعرفة من نوع ما : فهي عند وردزورث اداة للادراك الحدسي ، في وسعها ان تحمل الحقيقة لا الحقيقة الفردية والمحلية بل العامة والعاملة ...حية الى القلب عن طريق الحماس العاطفي).
- يبقى الشعر الاداة الوحيدة التي بها يستطيع الانسان (فرد – شخص )كائن وحيد واثق ومضطر الى الوثوق بما يجابهه هو نفسه ، ان يدرك اختباره فيعرف نفسه ، ففي زمن كهذا تزداد خطورة الشعر الحقيقية بحكم الضرورة ،وهي تزداد على الأقل عند اولئك الذين يؤمنون ويأملون ببقاء مجتمع قائم على الحياة الفردية اي على الحياة لان لا حياة سواها . فلا مكان للذين يمارسون الشعر بصنفه (السياسي) أو محاولة حل مشاكل عصرهم بقصائدهم ، بل عليهم ممارسة فنهم لاجل أغراض فنهم وبمستلزمات فنهم ، مدركين أنه انما بواسطة فنهم لامست الحياة حياة البعض هنا في الماضي وقد تفعل ذلك ايضا في المستقبل.
فنحن امام دعوة ابعاد الوعي السياسي الذي يشكل الدافع المباشر لاتجاه الفئات المثقفة لتعميق ثقافتها السياسية والبحث عن الوسائل التي تستطيع أن تسهم في حل هذه المشكلات فقادها الى التعرف على جوانب الفكر الاشتراكي، و (الفكر الماركسي الذي يرى أن مهمة الفكر ليس تفسير العالم،بل تغييره) ولاسيما الحديث عن التأثر بالمدرسة الواقعية ودور الدعوات المتمثلة في الفن للحياة أوللمجتمع، والفن للفن، فضلا عن قضايا الالتزام عند المثقف. وهذا ما جاء في كتابه (الشعر والتجربة ) في دراسة اربعة تجارب شعرية.
لقد حمل الموضوع الاخير من المجلة بقلم رئيس التحرير وتحت عنوان (أخبار وقضايا) ليكون هذا الموضوع خاتمة المقدمة ولتوضيح النقاط التي شابها بعض الغموض في تقديم المجلة فما تم طرحه فيه لايختلف عما جاء في تقديم المجلة حيث تضمن الموضوع الأتي:
- وجد شعراء العربية في انتفاضة الجزائر والعدوان على مصر(1956) حافزا للانتاج . ذلك أن عدالة قضية ما والتحمس لها قلما يكفيان للأبداع الفني . الموهبة المتحفزة هي كل شيء وهذه تذكيها القضايا الأنسانية الكبرى ولكنها لا توجدها. ومن الدلائل على وجودها ابراز منطويات الصراع القومي التحرري – أسوة بابراز منطويات الأختبار الشخصي – من خلال اطار انساني وضمن الوجود الانساني . بغير ذلك يبقى الأثر الادبي أو الفني محليا ، آنيا ، انفعاليا شأنه شأن افتتاحية في جريدة. ستظل هذه حال شعرائنا ما لم يدركوا ، بهذا الصدد ، ان قضية الحرية ، لا تتجزأ ، وان صراع الشعوب العربية من أجلها لا ينفصل عن صراع سائر الشعوب.
- ان لغة الشعر الحديث وموسيقاه وصوره والاجواء المسيطرة عليه ليست سوى النتيجة الحتمية التي يفرضها الاطار التاريخي المعاصر والمرحلة التي يجتازها الشعر في عالم اليوم . وتدخل في هذا الجدل قضية اللغة : الى اي حد يمكن للشاعر ان يختط نهجا لا يسف الى العامية ولايعاني (صعوبة الفصحى وقساوتها وبعدها عن الحياة).
- رفض فكرة ضرورة توحيد (ازدواجية) الشاعر بين حياته وفنه والدعوة الى ضرورة رفض توثيق العرى بين سلوك الشاعر الفني وسلوكه الحياتي ضمن مقولة: لن يتخلى (الشاعر) عن زيفه ما لم يشارك في المعركة لا ان يكون خياليا. من خلال أثارة سؤال: هل يتعذر على الشاعر ان يكتب مثلا عن نضال الجزائر متقمصا شخصية محارب في جبال (بوعروس)؟ وبكلمة أخرى هل يعجز الشاعر عن ان يحيا تجربة فعليا في خياله وفكره وشعوره؟
نحن امام ثلاث محاورفي خاتمة العدد وهي :أولا: ابعاد الخصوصية للقضايا الوطنية والقومية وعدم تضخيمها واضفاء القدسية عليها فهي لا تختلف عن قضايا الحرية في العالم . ثانيا : الكتابة بلغة بسيطة وعدم التمسك بقدسية اللغة العربية التي لها بُعد وطني- قومي (في توحيد الشعب العربي). وثالثا: الكتابة والتعبير ضمن إطار الفرد الواحد وعلى وفق رؤيته الخاصة دون ان يكون هناك التزام او تبني قضايا ( وطنية – قومية) فالرأي لا يتوحد مع الموقف.
في حديث اجراه جورج طراد مع يوسف الخال بتاريخ 27آذار 1984 ونشر للمرة الأولى في مجلة الناقد في العدد (35) في ايار 1991 تحت عنوان ( لم نكن نريد شعرا عربيا آخر كنا نريد ان نكون الشعر العربي برمته) وهذه عبارة جاءت على لسان يوسف الخال لقد تضمن الحوار نقاط تخص مشروع مجلة شعر ضمن سؤال جوهري طرحه جورج طراد وهو ( تعرضتم في مجلة شعر لحملات شعواء وصلت الى حد اتهامكم بالشعوبية وبالعمل على تخريب التراث العربي والارتباط بالحملات الامبريالية وبالاستعمار والمأجورين والمرتزقة) فكانت اجابات الخال ضمن النقاط الأتية :
- اعتقد البعض ان الحركة التي رفعت لواءها مجلة شعرفي اواسط الخمسينيات هي حركة تمردية على الشعر ليس فقط بخصوص الأوزان والقوافي ، وبأنها تهدف الى جعل الشعر العربي يواكب الشعر العالمي الذي كان تقليديا ثم تطور. هذه الفكرة عن مجلة شعر ليست كل الحقيقة ، فالرسالة الحضارية للمجلة ترفض اقوال خصومها (ان المجلة ضد التراث العربي وضد النزعة العربية وأنها لا تعطي الانجاز العربي في الشعر حقه). فان حركة مجلة شعر تهدف الى تغيير العقلية العربية تجاه الحياة ، فهي حركة ضد الذهنية العربية المتوارثة ضد التقليد والجمود والتوارث في التفكير .
- يجد الخال ان الاتهامات كانت لدى الأوساط المتعصبة للعروبة ولدى الذين عندهم نزعة شيوعية .ويجب عدم التوقف عند هذه الاتهامات.ان هدفنا في المجلة ان ننقذ التراث كي يحيا من جديد ،لم نقم بحركتنا كي يصبح الشعر شيئا اخر غير الشعر العربي ، على الرغم ان الحرية التي أعطتها مجلة شعر وبشرت بها لم تستخدم الاستخدام الصحيح لدى بعض الشعراء ممن جاءوا بعد شعر . فلم يعرفوا كيف يستفيدون من الحرية التي بشرت بها مجلة "شعر" للوصول الى الابداع الحقيقي.
- يجد الخال ان اللغة العربية لاتعيش بالكتب بل بالحكي(الكلام)، فينبغي ان نأخذها كما عاشت وكما هي تعيش فيرفض القول ان الكتابة باللغة المحكية (اللهجات ) في (الاقطار العربية) تؤدي الى زوال وتفتت الكيان العربي وضياع هويته ، فلايمكن أن نوحد العالم العربي على أساس هذا العامل اللغوي الهش. ان كل العالم العربي يكتب اليوم اللغة الفصحى ومع ذلك نجد ان تلك اللغة تموت يوما بعد يوم. كما ان أستخدامها لم يؤد الى توحيد (العالم العربي).
في دراسة اكاديمية رصينة ضمن عنوان كتابه (الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي)للدكتور محمد حسين الأعرجي حيث يذكر بخصوص مجلة شعر النقاط الأتية:
- اتجهت مجلة شعر الى قصيدة النثر وتبني نماذجها والى كسر طوق اللغة التي تقول شيئا وكأنها تجدد (الدادئيين) ، ولعل أبرز من يمثل تيار مجلة "شعر" هم يوسف الخال،و أنسي الحاج ، وتوفيق صائغ ، وفؤاد رفقة. ولعل أبرز تجمع بين أغلب شعراء مجلة "شعر" هو انطباع شعرهم بالغموض ، سواء كان نابعا من صميم التجربة الشعرية أو طارئا عليها ، حتى لكأن الغموض في شعر هذه المجلة قيمة شعرية لا تعني شيئا سوى تأكيد العبث واللاجدوى .
- اما السمة الاخرى فهي النزوع الى التجريب المستمر في الأشكال الشعرية وكأن الضياع الفكري يجد في التجريب تعويضا عنه ، ويتخذ من التجديد قيمة منفصلة عما حولها هدفها الابتعاد عن التراث ،وقطع كل صلة به.
- لم تكن مجلة "شعر" ظاهرة منفردة ، وانما هي جزء من خط عام تموله ( المنظمة العالمية لحرية الثقافة، وهذه المنظمة تعيش على تبرعات سنوية كبيرة ثابتة تدفعها بعض الشركات الرأسمالية المعروفة في امريكا) وان هذا الخط استطاع ان يؤثر بوعي المتأثرين وبدون وعيهم منذ أواخر الخمسينيات في مسيرة الشعر العربي.
وبعد أشارة الأعرجي لابد من التوقف عند كتاب (من الذي دفع للزمَّار:الحرب الباردة الثقافية: المخابرات الأميركية وعالم الفنون والآداب/المؤلفة: فرانسيس ستونز/ الصادر سنة 1999) حيث جاء في تقديم الكتاب :في ذروة الحرب الباردة، خصصت الحكومة الأمريكية موارد هائلة لبرنامج سري للدعاية الثقافية في العالم . وقد أدارته، في سرية تامة، وكالة المخابرات المركزية، ذراع التجسس الأمريكية. وكان محور هذه الحملة السرية هو مؤتمر الحرية الثقافية، الذي أداره عميل وكالة المخابرات المركزية مايكل جوسلسون من عام 1950 إلى عام 1967. وكانت إنجازاته - ولا سيما مدته - بالغة الأهمية. ففي ذروتها، كان لمؤتمر الحرية الثقافية مكاتب في خمسة وثلاثين دولة، يعمل بها عشرات الموظفين، ونشر أكثر من عشرين مجلة مرموقة، وأقام معارض فنية، وامتلك خدمة إخبارية ومقالات، ونظم مؤتمرات دولية رفيعة المستوى، وكافأ الموسيقيين والفنانين بجوائز وعروض عامة. وكانت مهمتها هي دفع المثقفين بعيدًا عن افتتانهم المستمر بالماركسية والشيوعية نحو وجهة نظر أكثر استيعابًا لـ "الطريقة الأمريكية". انطلاقًا من شبكة واسعة النطاق وذات نفوذ واسع من موظفي الاستخبارات، والاستراتيجيين السياسيين، والمؤسسات التجارية، للترويج لفكرة مفادها أن العالم بحاجة إلى سلام أمريكي، عصر جديد من التنوير، وسيُطلق عليه اسم "القرن الأمريكي".