برز مظفر النّواب شاعرًا لا يعرف المساومة, وصوتًا حرًا ارتقى من وجع العراق إلى ضمير الأمة, في عالم قيدت فيه الكلمة وقمعت به الأصوات, لم يكن شعره مجرد كلمات منمقة تُلقى على المسامع, بل صرخةً احتجاج, وموقفًا سياسيًا, وجرأةً نادرة في مواجهة الطغيان والفساد, تنقل بين المنافي والسجون, ولكنه لم يساوم, فظل وفيًا لقضايا الفقراء والمظلومين مسلحًا بقصائده النارية التي تنبض بالغضب والصدق, في هذه المقالة, نسلط الضوء على مسيرة النّواب الشعرية والنضالية.
النواب ليس مجرد شاعر, بل ظاهرةُ شعريةُ وسياسية استثنائية في تاريخ الادب العربي الحديث, ولكن تجربة النوّاب الشعرية, لم تحظ بالاهتمام المطلوب من لدن الناقد العربي والعراقي منه على وجه الخصوص, لأسباب سياسية؛ إذ تتمحور حول الخوف من الأنظمة الحاكمة آنذاك؛ فكانت أشعاره ممنوعة في معظم الدول العربية, لما تحمل من هجاء للملوك والحكام. ولكن مع رياح التغيير التي هبت على العراق والمنطقة العربية كلها. بدأ الدرس النقدي الحديث يلتفت إلى تجربته الشعرية, ولاسيما الدراسات الأكاديمية.
ولد النّواب عام 1934م في بغداد, وترعرع في ظل أسرة ثرية أرستقراطية تتذوق الفنون والموسيقى وتحتفي بالأدب. فأغلب العائلة تعزف على الآلات الموسيقية, ولهذه الآلات وقع في نفسية النّواب, ونجدها حاضرة في مجموعته الأولى التي سماها " وتريات ليلية " استذكارا لتلك الوتريات التي كانت برفقته في الطفولة التي لها صدى واسع, وذكريات جميلة في ذاكرة النوّاب فصاغها على شكل ذكريات ممزوجة بالألم فعزفها شعرًا. وقد تلقى تعليمًا أتاح له الانفتاح على الثقافة العربية والعالمية منذ سن مبكر, ولكن انحاز منذ شبابه إلى قضايا البسطاء, واصطف في خندق الفقراء والمقهورين, وتميز شعره بلغة ثائرة, تمزج بين الفصحى والعامية العراقية, لتصل إلى إعماق الناس بصدق مباشر وعاطفة ملتهبة, لم يتردد في فضح الأنظمة العربية, ورفع صوته عاليًا في وجه القمع والفساد, فكان مطاردًا وممنوعًا, ولكنه مناضلًا لم يساوم, نفي وعُذّب وسُجن, و يتجلى في شعره فلسطين, العراق, الحرية, الحب, الموت, وكأن كل بيت يكتبه هو موقف, وكل قصيدة ثورة, فشعره مرآة لروحه الثائرة, وصدى لصوته الغاضب الذي لا يعرف المهادنة, وتميزت قصائده بالوضوح والحدة, والجمع بين الجمال الفني والرسالة السياسية, لم يكتبْ للترف أو الزخرف, بل كلماتهُ طلقاتُ احتجاج ووسيلة مقاومة.
وتشير المصادر التي كتبت عن بدايته الشعرية أنه بدأ كتابة الشعر مبكرًا, إذ كانت أول قدحة شعرية له كشفها أستاذه, وأصبح ينشر ويشارك بقصائد على الصحف الجدارية في الدراسة الثانوية. عمل مفتشًا في وزارة التربية لكن سرعان ما فقد وظيفته بعدما حكم عليه بالإعدام؛ بسبب ارتباطاته السياسية, لم يكن تمرد النواب فقط بالقصيدة الشعرية, بل امتد إلى نشاطه السياسي العلني, ففي خمسينيات القرن العشرين انخرط في صفوف الحزب الشيوعي العراقي, وعبّر عن رفضه للظلم الاجتماعي والهيمنة الاستعمارية, وبعد الإطاحة بالنظام الملكي, زادت حدة الصراعات السياسية في العراق, وبتهمة النشاط السياسي والتحريض ضد النظام حكم عليه بالإعدام, ثم التخفيف الى السجن المؤبد في نقرة السلمان الذي ترك أثرًا واضحًا في شعره, ثم تمكن من الهرب من سجن الحلة المركزي, وبعد تعرضه للسجن والتعذيب عدة مرات أضطر إلى الخروج من العراق ليبدأ رحلة طويلة في المنافي متنقلًا في بلدان مختلفة دون أن يخبو صوته الشعري. وقد كان لبيئة أهوار الجنوب, حيث الطبيعة الساحرة والبساطة القاسية لحياة الفلاحين, تأثير بالغ في تكوين وعي النواب الإنساني والجمالي, فقد قضى فترة من حياته بين أبناء هذه المناطق, واختلط بمعاناتهم وهمومهم اليومية, فلامس الفقر عن قرب, ورأى بعينه وجوه القهر التي تجاهلتها الأنظمة, انعكس كل هذا في شعره الفصيح والشعبي؛ إذ استوحى من صور الاهوار مفرداته واجواءه, فكانت القصيدة تنهض من رائحة الطين, ومن غصّة الصيادين, ومن وجع القصب المنحني تحت الشمس, والاهوار لم تكن مجرد منطقة جغرافية, بل رمزًا لكرامة الإنسان العراقي الصابر, ومنها صاغ مظفر لغة مشبعة بالحياة والصدق, يحدثنا الشاعر عن ذلك فيقول: " كثير من الناس يستغرب كيف أستعمل عامية الجنوب,... لشدة حساسية المفردة هناك وموسيقاها ولانفعالية التي بها, فقد سيطرت عليه سيطرة تامة, فصرت عندما أكتب تأتي المفردة مضبوطة,...". وعرف من خلال قصيدته " قراءة في دفتر المطر" 1969م, التي تكشف عن البُعد الانساني والعاطفي في تجربته, وهي نص مشبع بالحنين والحزن والبوح العميق, بعيدًا عن صرخاته السياسية المباشرة, فيظهر فيها الانسان العاشق المكسور المنفي الذي يحاور المطر والغياب, ويغرق القارئ في حالة من التأمل والأسى, والصورة الشعرية تنساب بنغمة وجدانية مختلفة عن لهجته الغاضبة المعهودة, وتظهر قدرة النواب على المزج بين الشعر الرومانسي العميق والتعبير الذاتي الصادق, ومما يؤكد أنه لم يكنْ شاعر احتجاج, بل شاعرُ يرى العالم من زوايا متعددة, ويصوغ تجربته بلغة كثيفة وشفافة في آن واحد. تميّز الشعر السياسي عند النّواب بخصائص فريدة جعلته مختلفًا عن غيره من شعراء الالتزام. فقد كتب بلغة غاضبة وصادقة حد الوجع, دون مواربة أو خوف, فكانت الجرأة المطلقة من أبرز سماته, حيث سمى الأمور بأسمائها, وأنتقد الأنظمة العربية بحدة غير مسبوقة, ولشعره السياسي فضل في تقديمه للجمهور العربي الذي أعجب بالتزامه للقضايا العربية التي أصبحت سمة قارة في عموم منجزه الشعري, فمنذ سبعينيات القرن الماضي عرف بشعره السياسي المعارض ونقده للأنظمة العربية, لذلك فرضت عليه هذه القصائد السياسية الهجائية في أن يكون " شاعر الغربة والضياع " عاش طريدًا بين المنافي الأجنبية والعربية لأربعة عقود. وقد حافظ على التوازن بين الجمال الفني والموقف السياسي, فجاءت قصائده مليئة بالصور الشعرية والمجازات العميقة, أنشد شعره بالعامية والفصحى, ليزيد قربه من الناس, ويكسر الحواجز النخبوية, وانطبع شعره بالطابع الثوري, وأدب المقاومة, الذي ضمنه هجاء حادًا ونقدًا لاذعًا إلى الحكومات العربية, فصار شعره جزءًا من الوجدان الشعبي, فأصطبغ شعره بالسياسة والغربة فهو الغاضب على أعدائه, يهدد ويتوعد بالتغير والثورة, فهو ليس ثائرًا وغاضبًا بل ناقدُ سياسيُّ استطاع أن يضع النقاط على الحروف, ورسم المأساة العربية شكلًا ومضمونًا, فأكثر ما يشغل النوّاب في شعره القضايا العربية والإنسانية, وعلى رأسها فلسطين, مما أضفى على شعره بعدًا قوميًا وانسانيًا.
والسجن لم يكن مجرد مكان احتجاز لمظفر النواب؛ وإنما تجربة وجودية وشعرية عميقة, فلم يكن قيدِ ماديًا, لقد كان امتحانًا للإرادة والهوية والصدق الشعري, قضى سنوات من عمره في الزنازين, وتعرض للتعذيب والملاحقة بسبب مواقفه السياسية, ولكن لم تكسر روحه بل حوّله إلى فضاء شعري داخلي, يغوص فيه للتأمل والكتابة والتحدي, كتب أجمل قصائده , حيث امتزج الألم بالغضب, والحنين بالتمرد, أصبح السجن له مختبرًا للصدق ومحرّضًا على الكتابة, ومرآة يرى فيها زيف العالم الخارجي, فجعل من القيود صورًا رمزية للخذلان العربي, ومن الزنزانة صوتًا يصدح في وجه الطغاة, وكتب عن معاناة التعذيب والتشرد والترحال وتعسف الأنظمة الحاكمة, وعبر عن مشاعر الحنين والشوق إلى بلده العراق معبرًا عن وجعه واغترابه, فهو شاعر رافض غير متصالح مع الواقع السياسي العربي. إمَّا إنتاجه الشعري رغم صعوبة الظروف وتشتّته في المنافي والسجون, ترك إرثًا شعريًا عميقًا ومؤثرًا, لا يقاس بعدد الدواوين, فقد كان كثيفًا في المعنى والتأثير, وصاحب ثراء شعري وتجربته الشعرية غنية منذ (1969م ) ديوانه الأول الشعبي " الريل وحمد ", إلى مجموعاته الشعرية الفصيحة.
ومن أبرز مجموعاته الشعرية " وتريات ليلية" التي تُعدّ من علامات الشعر العربي الثوري, وتمتزج فيه اللغة الفصحى بالرؤية القومية الغاضبة, إلى جانب قصائد مثل " القدس عروس عروبتكم" وكثير من شعره انتشر مشافهة أو عبر أشرطة الكاسيت, بسبب الرقابة والمنع, تناولت قصائده الحرية, والقمع, والمنفى, الحنين, الحب, والانكسارات القومية, وامتازت بلغتها الصادمة حينًا والرقيقة حينًا أخر, لم يكتب للنخبة بل للناس, وكان يرى في الشعر أداة للتغيير, ولكن لم يُطبع شعره ما عدا الشعر الشعبي الا متأخرًا, ويرجع ذلك إلى إحجام دور النشر لما يحمله من نقد للأنظمة العربية الحاكمة, فشعره أكثر مما ألقاه على المسارح أو سجل في أشرطة كاسيت فيتحدث عن فقدان عشرات القصائد الطويلة, وفي عام (1996م ) طبعت "دار قنبر " في لندن كتاب الأعمال الشعرية الكاملة. وعلى الرغم من تغيير النظام السياسي في العراق فإنَّه لم يعد للوطن الا في عام ( 2011م ) بعد هجرة طويلة, إذ سرعان ما عاد إلى مقر إقامته في سوريا التي تركها بعد الأحداث الأمنية والسياسية التي شهدتها فسكن لبنان ثم استقر في الامارات العربية المتحدة حتى وفاته في 20 مايو 2022. مظفر النواب لم يكن مجرد شاعر, بل كان صوتًا جريحًا لأمة بأكملها, وضميرًا حيًا لم يساوم على قضية أو كلمته. تنقل بين المنافي والسجون, وواجه أنظمة القمع بجرأة عزّ نظيره, لكنه لم ينكسر, بل ازداد توهّجًا مع كل وجع, جعل من القصيدة سلاحًا, ومن الكلمة حصنًا للحرية, فكتب للتاريخ وللناس وللأرض التي أحبها ودافع عنها حتى الرمق الأخير في زمن كثرت فيه الاقلام المأجورة, ظل وفيًا لصوته, للعدل , للثورة, للشعر النقي واليوم ورغم غيابه الجسدي تبقى قصائده حيّة في نفوس وقلوب الذين يحلمون بوطن حرّ لا تُكسر فيه الكلمات ولا تكمم فيه افواه الشعراء, رحل مظفر النواب, ولكن مسيرة الكلمة الحرة التي خاضها لا تزال تنبض وتُتلى في المظاهرات وتُرددها الألسن كأنها أناشيد للحرية لا تموت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
-ينظر: مظفر النواب شاعر الثورات والشجن, أوس داود يعقوب, دار صفحات للدراسات والنشر, سورية,2010م .
-ينظر : سيمائية العنوان والشخصية التراثية في شعر مظفر النواب, سامي كريم موشي, مجلة آدب ذي قار, ع4, مج1, تشرين الاول,2011م.
-ينظر : الأعمال الكاملة.
-ينظر : مظفر النواب حياته وشعره, باقر ياسين, دار الغدير, قم, ط2, 2000 م.
-بناء السفينة, دراسات في النص النوابي, محمد طالب الاسدي, دار الشؤون الثقافية العامة, 2009م .
-مظفر النواب .. بين المقارعة والاستبداد وضياع المنافي, الجزيرة, موقع الالكتروني,12/8/2015, الساعة12:54( مكة المكرمة),www.alijazeera.net.
-ينظر : مظفر النواب ...شاعر الرفض والشتيمة السياسية, شاكر فريد حسن ,www.m.ahewar.org.
-ينظر : مظفر النواب .. بين مقارعة الاستبداد وضياع المنافي, الجزيرة, موقع الالكتروني, 12/8/ 2015, الساعة 12:54
(مكة المنورة) ,www.alijazeera .net.
*الكلية التربوية المفتوحة