اخر الاخبار

 نظّمت جمعية الفنانين التشكيليين في البصرة ثلاثة معارض تشكيلية خلال فترات متقاربة، للفنانين هاشم تايه وسمير البدران وجواد الجواد، اتسمت بملامح تقنية مشتركة، هي تقنية الكولاج (التلصيق) لإنشاء ملمس شعوري خشن ينهض من السطح المستوي ويعترض الممارسة التقليدية للمتلقّي في التفاعل البصري والذهني مع اللوحة التشكيلية. وفيما يلي أسجل حضوري لمعرض الفنان سمير البدران (شباط ٢٠٢٥) وممارستي الشعورية في استغوار الأبعاد الغائبة لأشكاله العائدة بهيآت وتصورات جديدة للسطح التلصيقي تحت عنوان "آثام الصحف". نستطيع أن ننظر إلى لوحات سمير البدران في معرضه المجمع من الآثار المؤجلة في عالم "الصحف" الورقية، ونستخرج من الممارسة التركيبية للوحة ما يعيد للأبصار نسخةً من عهد فائت/ بائد حوَت فيما حوَت إيهامات شتى وتحويرات متعمدة للوقائع الحياتية للمجموعة البشرية- العامة والمثقفة- سلّط عليها تأويلاً تشكيلياً يتسم بالجرأة والمبالغة في استعمال مواد الحياة المهملة- ومنها تذكارات شخصية عزيزة ومشاهد مُعمّاة أو ملطخة بالأصباغ والكتابات والرموز الخاصة بممارسة الفنان المتوارية في الظلّ- ظلّ حياته أو ظلّ مرسمه.  وعلى الرغم من الطابع الجمالي المبالَغ في تركيبه- تقطيعه وتشويهه- فليس صعباً على الذات المتلقية تلك الآثار، لحظة المشاهدة الراهنة، التعرّف على مؤثرات تاريخية فاعلة في تضاريس السطح الممزق، تتشابه مع أمثالها من خبرات طامسة في الشعور، أثارتها الممارسة الطليعية لفنان "الصحف" الرائد في نقد ذاتيته الكتوم على ما تنطوي عليه من أفعال وأفكار تصل حد الانفجار والمطالبة بالعودة للسطح التفاعلي الممدود بين الجانبين. إنها وليمة "الإثم" المشتركة، التي تتكرر بمسميات مختلفة، كلما طوينا صحائف فترة طافحة بالفضائح والآثام. (تستطيع اللوحة تجريد رموز الإثم وتشكيله بلغة إشارية مختلفة عن لغة الفيلم السينمائي التي تتجسد في صور واقعية متحركة، ومثالها وليمة يجتمع حولها شخصيات داعرة في فيلم بازوليني: سالو). لقد تميز منجز سمير البدران بتركيز النظر- أو ربما توزيعه- على بؤرة مختفية تحت أوراق الصحف- الملصقة، بعد تقطيعها إلى مزق ثم تركيبها في خطاطات منسقة بشكل تجميعي، عشوائي ومضطرب، للإيحاء بذهن يعاني "الرهاب" تحت ضغط ذكرى مؤلمة، أو واقعة فاضحة، أو مجزرة دامية... إلخ من المعاني السردية غير القابلة للتجسد والحضور دفعة واحدة، ومرئيات غير كاملة الوضوح والنقاء البصري والمشهدي على مستوى واحد. وأحس من جانبي بالإعاقات الإنشائية الكثيرة التي برزت في مقابل الوضوح والرؤية المنطقية لعلاقات أيّ مشهد مركب في لوحات البدران. ولعله من السذاجة أن نطالب الفنان بتوسيع مسطحات اللوحات إلى حجم أكبر، كي تستوعب أنساقاً تجميعية واضحة الأبعاد؛ وتنوع منظوراتها/ ملامسها بمواد غير ورقية لكي تقيم اتصالاً/ مكاشفة أكثر حميمية مع الذوات القاصدة تأويلها بمداخل (نفسية وتاريخية وجمالية) متعددة. اقتصرت لوحات البدران على تضريسات ورقية، محدودة المساحة، كأنها تشترط جواً نفسياً وطقساً جمالياً مقتصرين على مساحة المعرض- ذي الطراز التراثي- ومحدودية زوايا النظر فيه. وبذلك قد نستوحي إعاقات بيئية من نوع آخر، تتمثل في التساكن الوظيفي للمعمار وبيئته الراكدة- استقراره على تقاليد ووظائف غير فنية، تكررت في فضائه المعماري القديم بتقليد مغاير.

لاحظنا في مقالنا عن لوحات هاشم تايه (معرضه: تسليات القانط) محاكاة سردية متحولة من فضاء لغوي كتابي إلى بيئة العرض التشكيلي التقليدية. أما في لوحات سمير البدران، فإن إمكانية السرد الحواري كانت قائمة فيها أصلاً، وقد بدأت في "التحديث" التلقائي حال التقائها ذوات الزائرين الدائرة حول/ أمام اللوحات؛ لكنها ضاقت بالمساحة التراثية لقاعة العرض. وآنئذ نشأت مفارقة أوسع من محاكاة زميله السردية، ألا هي التقاطع الجمالي بين البيئة والأثر، أو بين التاريخ وتحديث وقائعه. فقد قدّمت لوحات سمير البدران وظيفة مشابهة للوظائف التلصيقية على جدران قديمة، تذكرنا بشقوق الجدران وكتاباتها في لوحات شاكر حسن آل سعيد، لولا أنها جاوزتها إلى مسافة قصيرة من البيئة والتاريخ، وبنسق أكثر انتظاماً وقصداً متحفياً. فاللوحات تنهض هنا من جدرانها  لتبدد الوهم التاريخي الدال على استحالة الجمع بين نوعين من البنيات التشكيلية التجريدية، العفوية والقصدية ذات الاتجاه النقدي التعبيري، في موقع متحفيّ. كذلك، فإن الأشكال  الملصقة من صحف الماضي نهضت لتحرّك ظنوننا عن أنفسنا بمواجهة سطوح الذاكرة الممحوة أو المعمّاة- هذه التي هادنت الشقوقَ والتصدعات الأنطولوجية لحياة العراقيين. بل قد يذهب بنا الملمسُ البصَري إلى مضاعفة ذلك الشعور، فنعمد إلى اختلاق واقع ثان من أكاذيبها، بعدد الذاكرات المختلفة لزائري المعرض. فقد يُضطر شعورُ الذات المشاهِدة، الحاضرة في هذه اللعبة التشكيلية، إلى تفكيك "الآثام" بمحاكاة لا تقل وهماً وخداعاً بصرياً، من خلال توليفات متراكمة تحت السطح المستوي أمامه. لقد عمد البدران إلى جرّ الآخر- مشاهِد لوحاته- إلى زاويته التي لم تنقطع تلصيقاتها عن تركيب الواقع الحاضر بتجارب بصرية مستفزّة.

   وإذا كان ظننا في محله، فإن هوية الاشكال السردية للملصقات في لوحات سمير البدران، تتعرف بمراجعة "الصُحُف" الماضية- أرشيفها الضخم والمهمل- وقد أعيدَ لصقُها لكي تحاكي واقعة مسرحية تدور في احتدام شعوري ومحاكمة صامتة "لإثمها" في تزييف الحقائق. وحين نصل إلى ختام- أو انفتاح- السرد الصحفي/ التصحيفي عند هذا الحد من التفاعل، وتبادل الأدوار بين ذات الفنان وذوات زائري معرضه، نكون قد أسقطنا الحجة الاستفزازية القائلة بمبالغة الفنانين "التلصيقيين" في إقحام وظائف وتفسيرات خارجية على لوحاتهم. لقد استأنف سمير البدران تقنيات فنية شائعة من نقطة جديدة، تتسم بالجرأة والتجديد الأسلوبي والدلالي.

عرض مقالات: