اخر الاخبار

الشعر يشبه ذاته حد التماهي، لكنه في كل مرة يبدو جديداً، كأنه يولد من رحم الزمن ويتغير مع كل قراءة. إنه يحمل طعم الحياة وعذوبة المطر وقداسة الماء، لكنه لا يتجمد عند شكل واحد، بل يظل في حركة دائمة، ككائن يتنفس في فضاء الكلمات، فهو كائن حيّ ينمو ويتغير، يتمدد وينكمش، يلامس الحواس، يتدفق كالموسيقى، يتشكل كلوحة، ويتحرك كمشهد سينمائي. حين نقرأ ديوان "رسائل من المتاهة" للشاعر محمد تركي النصار، نجد أنفسنا أمام نصوص لا تعترف بالسكون، بل تتغير داخل بنيتها، فتخلق إيقاعاً داخلياً أشبه بخطوط الضوء المتراقصة على سطح الماء. هنا، تتحرك اللغة بين التشكيل البصري، والتوتر الموسيقي، والتقطيع السينمائي، في تجربة شعرية تتجاوز المعنى إلى الإحساس، وتعيد تشكيل العالم في فضاء يتشابك فيه الزمن والمكان والرؤية. فلا تبقى اللغة جامدة، بل تنزلق بين الأصوات والألوان والظلال، متحولة إلى كائن ينبض بالحركة والإيقاع، حيث تتحرك اللغة داخله كتيار موسيقي، وتتشكل كلوحة بصرية، وتنبض بحياة سينمائية تتنقل بين المشاهد.

النص في هذا الديوان ليس مجرد كلمات مرتبة على وفق نسق معين، بل كائن حيّ ينمو ويتغير، يتدفق أحياناً وينقطع أحياناً أخرى، يندمج مع الزمن والمكان ليصنع متاهة لغوية تأخذ القارئ في رحلة غير مستقرة بين التأويلات والمعاني، وكما أن الكائنات الحية تخضع للتغير المستمر، فإن اللغة في هذا الديوان لا تعرف الاستقرار، بل تتبدل وفق تدفق الزمن وحركة التأويل، مما يجعلها نصاً مفتوحاً يعيد تشكيل نفسه باستمرار. إن اللغة ليست مجرد أداة لنقل المعنى، بل كيان زئبقي يتغير بزاوية الرؤية والقراءة، متحركة بين الحضور والغياب، وبين الإيحاء والتصريح، وبين التدفق والانقطاع تتشكل اللغة مثل كائنٍ عضوي يتنفس ويتكيف، بحيث تتغير معاني الكلمات عبر مسار القراءة، وكأن النص لا يقرأ بالطريقة نفسها.

اللغة لا تستقر عند شكل أو إيقاع واحد، بل تعتمد على التقطيع الجُملي الذي يخلق إيقاعاً متحركاً داخل النصوص، فالجمل القصيرة تشبه أنفاساً متقطعة، بينما الجمل الطويلة تمنح إحساساً بالتدفق المستمر. في قصيدة "بلا تاريخ"، يبدأ الشاعر بجملة مقتضبة:

الأشجار

بحسب شاعر إسباني

بلا تاريخ

لأنها لا تمتلك أقدامًا مثلنا…

الجملة الأولى تأتي كضربة فرشاة أولى، ثم تتوالى الطبقات الدلالية، مما يجعل اللغة تتحرك من الصورة إلى الفكرة، ومن السرد البصري إلى التأمل الفلسفي. في "مسامير شارلي شابلن"، يحدث الشيء نفسه، حيث تتوالى الجمل كأنها لقطات سينمائية متتابعة:

تحت سقف ذلك المنزل

الذي غادرناه

على عجل

في الخريف الأخير…

الكلمات هنا لا تُروى دفعة واحدة، بل تفرض على القارئ تتبعها وكأنها إيقاع زمني متأرجح بين الماضي والحاضر، بين الذكرى والحركة الفعلية.

إن التفاعل بين اللغة والصورة والإيقاع هنا لا يعتمد على البناء الجمالي فقط ، بل يمتد ليصبح عنصراً تكوينياً في النص، حيث تتحول اللغة إلى موسيقى مرئية تتشكل عبر الكلمات، مما يجعل القراءة تجربة حسية تتجاوز الإدراك اللغوي التقليدي، إذا كانت السينما تحرك الصورة والموسيقى تحرك الصوت، فإن الشعر في هذا الديوان يحرك اللغة ذاتها، بحيث تصبح الكلمات ظلالاً وأصواتاً تتغير وفقه حساسية القارئ وزاوية رؤيته، لا يقتصر التجديد في الديوان على البنية النحوية أو الصور الشعرية، بل يتعدى ذلك إلى البنية الإيقاعية والبصرية للنص. فالشعر في هذا الديوان ليس مجرد كلمات مرصوفة، بل تجربة صوتية وبصرية تتغير بتغير زاوية الرؤية، حيث تمتزج الإيقاعات اللغوية بالمشاهد التخيلية لتخلق فضاءً مفتوحاً للتأويل. إن تنوع البناء اللغوي في الديوان لا يتوقف عند حدود التقطيع الجُملي، بل يمتد إلى الإيقاع الموسيقي والتشكيل البصري، مما يجعل التجربة الشعرية أشبه بمقطوعة موسيقية ولوحة تشكيلية تتغير بتغير زاوية الرؤية، فإيقاع الديوان ينبع من التكرار الصوتي والتوازي البنيوي، مما يجعل القراءة شبيهة بسماع مقطوعة موسيقية تتصاعد وتهدأ. كما تتحول اللغة إلى موسيقى نابضة بالحركة، كما نجدها تتجسد في تشكيل بصري متغير، هذا التنوع الإيقاعي في التقطيع الجُملي لا ينعكس فقط في بناء النصوص، بل يمتد إلى بنيتها الموسيقية والتشكيلية، حيث نجد أن اللغة نفسها تتجسد كإيقاع صوتي ومشهد بصري متغير حيث تصبح الكلمات ضربات فرشاة ترسم مشاهد متداخلة في "نزق":

"المطر

وعطر النارنج

يتداولان الحظوظ

التي تعلو وتهبط

في أسهم الشعر والحياة…"

المطر، العطر، الحظوظ، جميعها كلمات لها إيقاعها الداخلي، مما يجعل النص ينبض بموسيقى خفية أشبه بمقطوعة "Clair de Lune" لديبوسي، حيث تتكرر النغمات في مسار دائري، كما تتكرر الكلمات في القصيدة لتوليد الشعور بالتدفق اللغوي. في "شفرات"، يتحول النص إلى سيمفونية قصيرة ومكثفة تشبه افتتاحية السيمفونية الخامسة لبتهوفن:

"العواء الحر

يتشظى

شفرات حاذقة

تغوص

عميقًا

في بئر الورقة الحمراء."

التقطيع الحاد للجمل يخلق إيقاعاً مضغوطاً ومكثفاً، أشبه بطرق الأقدام فوق المسرح، أو ضربات متتالية على البيانو، مما يعزز من توتر المشهد ويمنحه قوة تعبيرية غير مستقرة، وكما تتكرر النغمات الموسيقية لتولد إيقاعاً متغيراً، نجد أن الألوان والخطوط في اللوحات الشعرية للنصار تتداخل بالطريقة نفسها، مما يجعل النص مشهداً ديناميكياً يتغير مع القراءة.

البعد التشكيلي في الديوان يجعل اللغة تتحول إلى مساحات لونية وظلال متراكمة. في "خطوط الشفق اللاذع"، تبدو الكلمات وكأنها خطوط متشابكة في لوحة "حقل القمح مع الغربان" لفان غوخ، حيث تتصارع السماء مع الأرض، والضوء مع الظل:

إلى مصاف الصقر الشاهق

الذي يكتم دمعة مفهومه الواسع للطيران…

وتارة تزدحم عليها الجهات

فلا تعرف إلى أي جهة تميل

في توالي غروبات الشاعر.

الصورة هنا تتغير كما تتغير الألوان في لوحة انطباعية، حيث تنزاح الخطوط وتتداخل دون ثبات. في ’ عطر المكان‘، يحدث العكس، حيث تتحول الصورة إلى حلم يقظ شبيه بالفضاءات السريالية في لوحات سلفادور دالي، حيث تمتزج العناصر الواقعية باللاواقعية، وتبدو الحدود بينهما غير واضحة:

الفراشات

تلاحق أصابعك

باحثة عن

عطر المكان

الذي صار زمانًا

مبعثرًا

بين الفوضى والنسيان.

العطر يتحول إلى زمن، والمكان يصبح حالة مشوشة، تماماً كما تتحلل الأشياء في لوحات دالي وتفقد شكلها المحدد. بهذا المعنى، تتشابك الفنون داخل النص كما لو أنها تجربة متعددة الوسائط، حيث تتحول الكلمات إلى ضربات لون وصدى صوتي وحركة داخل مشهد سينمائي، مما يجعل القارئ ليس مجرد متلقٍ، بل مشاركاً في إعادة تشكيل النص مع كل قراءة جديدة. بينما يخلق النص توازناً بين الإيقاع الموسيقي والتشكيل البصري، فإنه لا يكتفي بذلك، بل يمتد إلى بنية سينمائية تقوم على التقطيع والمونتاج، مما يجعل القراءة تجربة أشبه بمشاهدة مشاهد متتابعة على شاشة سينمائية، حيث تتحرك اللغة بين اللقطة المقربة والمشهد الواسع، بين التركيز والتلاشي، في ديناميكية تشبه حركة الكاميرا في السينما التجريبية.

المشهد السينمائي في الديوان يعزز من ديناميكية اللغة، حيث يعتمد الشاعر على تقنيات التقطيع السينمائي والمونتاج الشعري. في "طيور هيتشكوك"، تتحرك الكاميرا بين المشاهد كما في فيلم "The Birds" لألفريد هيتشكوك، حيث يشعر القارئ بالتوتر والقلق:

"إذا كنت جادًا

بتفهم تعليمات

شرطة المدينة

المتداخلة

مع هتافات الباعة الجوالين

فلا تحاول

تعديل المسافات

بين الطيور والطائرات…"

المشهد يوحي بأن هناك خطراً يقترب دون أن يظهر بوضوح، مما يعكس إحساس أفلام التشويق التي تجعل الحركة داخل النص غير مستقرة. في "مسامير شارلي شابلن"، نجد لمسة كوميدية مأساوية تشبه مشاهد "The Gold Rush" لشابلن:

"تحت سقف ذلك المنزل

الذي غادرناه

على عجل

في الخريف الأخير

تركنا حمامات

من عاداتها

التلذذ برائحة الغائبين…"

الكلمات هنا تعمل كمشهد صامت مليء بالسخرية والحنين، حيث تتحول التفاصيل الصغيرة (الحمامات، العطر، الغائبون) إلى رموز سينمائية تعكس فكرة الرحيل والغياب، يعتمد النصار في بناء مشاهده الشعرية على تقنيات تشبه المونتاج السينمائي، حيث تتوالى الصور بتقطيع سريع، كما نرى في 'مسامير شارلي شابلن'، مما يمنح القارئ إحساسًا بالمشهد الحركي لا بالكلمات المجردة فقط.

كل هذه التقنيات تجعل اللغة في هذا الديوان "رسائل من المتاهة"  كائناً متحركاً لا يستقر عند نقطة واحدة، بل يتغير بتغير الزمن والمكان والصوت والصورة. الكلمات تنزاح عن معناها المباشر لتصبح جزءاً من تجربة حسية متكاملة، حيث لا يقرأ القارئ النص فقط، بل يسمعه كإيقاع موسيقي، ويراه كلون وظل، ويشاهده كمشهد سينمائي عابر واللغة تتحرك كما تتحرك الحياة: بين اندفاع وتأمل، بين تدفقٍ وانزياح، تاركة القارئ في متاهة مفتوحة على الاحتمالات. وكأن الكلمات لا تكتفي بأن تكون حاملة للمعنى.

المتاهة الشعرية: تأملات فلسفية في بنية النص

إن عنوان الديوان "رسائل من المتاهة" ليس مجرد اختيار لغوي، بل يعكس بنية النص ذاته. فمثلما لا تملك المتاهة طريقاً واحداً للخروج، فإن اللغة في هذا الديوان تتفرع في اتجاهات متعددة، مما يجعل القارئ مستكشفاً أكثر منه متلقياً. فالشعر هنا ليس مجرد إنتاج للمعنى، بل فضاء مفتوح على التأويل، يتغير وفق حساسية القارئ وزاوية رؤيته. وكما أن المتاهة لا تفضي إلى طريق وحيد، فإن النص الشعري هنا لا يسلم نفسه لمعنى نهائي، بل يظل مفتوحاً على تأويلات لا متناهية، تجعل القراءة تجربة غير مكتملة لكنها ممتعة.

 

لا يقدم النصار نصاً مغلقاً أو ثابت الدلالة، بل يفتح مساحات للتأويل، حيث تصبح كل قراءة ولادة جديدة للنص. فالشعر هنا.. لا يطمح إلى تقديم إجابات، بل إلى طرح الأسئلة، حيث تصبح اللغة ذاتها ساحةً لتجربة تأملية مستمرة.

بهذا المعنى، يصبح الديوان ليس مجرد مجموعة من النصوص الشعرية، بل تجربة فلسفية حول طبيعة اللغة ذاتها، حيث لا يكون الشعر وصفاً للعالم، بل إعادة خلق مستمرة له، كأنه كائن حيّ يبحث عن ذاته داخل فضاء الدلالة.