اقتطعتُ صورتين من ألبوم جمعة اللامي الشخصيّ، كي أتأمل حالتين من حالات الجسد والكتابة، في سنوات حياته التي قاربت الثمانين (العمارة ١٩٤٧- الشارقة ٢٠٢٥).
في الصورتين (إحداهما بالبيجامة المقلّمة، والثانية بالبدلة البيضاء الناصعة) مسافة يجب أن نملأها بالحقائق، بما كان يتصل بحقبة سوداء عقب انقلاب شباط ١٩٦٣ (اعتقال جمعة وسجنه في نقرة السلمان) وحقبة تالية بيضاء (النأي والتبرؤ والاستكانة لحالات من التأمل الصوفيّ) وكلتاهما علامة على نوعين من النصوص السردية. الصورة الأولى: علامة على سرديات المنشأ القرويّ والهجرة للمدينة والعمل الصحفيّ والتباس الصداقة، اشتباكها في ثنائيات متضادة، وثلاثيات درامية فاجعة. والصورة الثانية: انسحاب السرد من مناقعه الأولى، إقامة علاقات مع غرباء المهجر، الابتعاد والتحليق في سماء الذات. التحاف الجسد بزيّه الأبيض مثل كفن.
غدا تنافرُ الملبسين تعالقاً اضطرارياً بنصوص الّلامي السردية والمقالية، الناطقة بلسان مرحلتين، سوداء وبيضاء؛ وأيضاً معياراّ لحياة صلبة وأخرى شفافة وهائمة، بقوة الزمن الواقعي القاهر أولاً، ثم بالإشارة الصوفية ثانية؛ فقد صارت المسافة بينهما عُرياً فاضحاً يجب إكساؤه بزيّ وهيأة وعلامة دالة على كاتب غير قابل للحكم والتعيير والحيازة المكانية والزمانية. إنه التنافر الضروريّ بين الحبس والحرية، والسكن في أقصى الارض، اللازم لصون اللسان والروح من الانحدار أكثر فأكثر نحو الهاوية- هاوية السلطة وحواشيها الإيديولوجية.
في صورة الّلامي بالبيجامة المقلّمة توافق مع التحدي المكشوف، والصرخة الصامتة. صرخة النفس المعذبة، وصمت العائلة المذنِبة. ويبدو الّلامي في صورة السجن هذه في أعلى استعداده للبوح والسخرية من وضعه، بإضافة السيجارة المعلّقة في طرف شفتيه المطبقتين. أما إذا أضفنا القبّعةَ المسطّحة إلى البذلة البيضاء الناصعة، في الصورة الثانية، الملتقطة من مكان إقامته في الشارقة، على طرف الخليج البعيد، فقد يدلّنا الزيُّ الأنيق على تنافر حقيقيّ آخر مفاده انكفاء الوجه المقبَّع على اعتلاله، استسلامه للرياح المالحة، للمرض الوسِخ، المتسلل تحت القماش النظيف.
في المحاكاة الحوارية التي نشرتُها بعنوان (محاورات حديقة زينب) يجيب جمعة اللامي على سؤال: من أين تأتي الفكرة وكيف تظهر: "الفكرة لا تترهّل، ولا تسوَّد بسواد حياتنا. إنها وضحاء، طليقة كمُهر؛ لكنها قد تختفي وتسافر ثم ترجع لتلازمنا كظلّنا. نحن كُتل من هواجس وأضابير، بعضها فوق بعض وفي بعض".
بهذه السمات، أو من تعالقها مع نوعي زيّ الّلامي، قد تأتي "الفكرة" أيضاً، حيث اختفت سنوات طويلة، قبل تحرّرها وتلاطم موجاتها في النصوص المتبقية على شواطئ البحر الفسيح.