يتمركز الخطاب الفانتازي والتقاطات اليومي والمهمل في مجموعة (خالي فؤاد التكرلي) للقاص والروائي خضير فليح الزيدي بدءاً من سيميائية العنوان الذي يحمل اسم القصّة الأخيرة في المجموعة والتي تجسّد أحداثاً متخيّلة ومؤطرّة بالفانتازيا، وبدلالة العنوان فإن المجموعة من خلال اضمامة من القصص المتنوّعة تقدّم للمتلقي نمطاً اشكالياً من الشخصيّات التي تنطوي على غرابة، وتشكّل بوجودها صراعاً أو اشتباكاً مع الواقع المأزوم الذي يكتنفها، إنَّها شخصيّات إشكالية مأزومة تحاول التشبث بالحياة لكنّها في النهاية تعاني الإنكسار أو الموت، الموت الفسيولوجي أو الموت الرمزي.
وتتشكّل عوالم المتخيّل القصصي على وفق نسق فانتازي يعكس حجم المفارقة والتناقضات التي ينطوي عليها الواقع، وترصد القصص عوالم الشخصيّات المهمشة والأحداث التي تمرّ بصيغة وتواتر اليومي والمهمل الذي يبرع الكاتب في اصطياد صوره وأنماطه بمهارة ودقة وتفحص وهو يتوغل في القاع الاجتماعي ويقدّم أبطالاً مهمّشين واشكاليين ويتتبع زوايا ولحظات فارقة وهاربة يصعب أن يستقصيها الذهن العادي.
تتحول التفاصيل والرؤى التي تمزج الواقعي بالفانتازي إلى معادل موضوعي لحقيقة ما يجري من غرابة ومفارقات فادحة ومنتجة لما يرمي إليه الكاتب من استخلاصات على مستوى الرصد والقصدية، ويمكن القول إنَّ الكاتب يقدّم لمتلقّيه إضمامة من الأفخاخ القصصية، تتسم بالجذب والاستقطاب واثارة التشويق والمتعة من خلال بنية جمالية قائمة على السرد التفاصيلي والمثير، على وفق انتقائية فاعلة للحدث الفانتازي، ورسم ملامح شخصيّات اشكاليّة عالقة بسبب ارتكاسها الذاتي أو بسبب احتدام الواقع، والمصدّات الموضوعيّة، ويوظف القاص نمطاً من الأداء التعبيري واللغة الاختزالية المعبرّة عن اشتغال جمالي وإشاري يرسم من خلاله الكاتب مشهديّة قصصيّة وعوالم مفتوحة وعميقة لتجسيد الوقائع، وتقديم الشخصيّات، وبراعة الإستهلال، ودلالة النهايات التي تكشف عن قصدية تعكس المعنى الكلّي للنص. وظّف القاص أنماطاً وأشكالاً من التقنيات السردية وأقام عليها عوالمه وفضاءاته القصصية التي اتسّمت بالجمالية الشفيفة والعالية بالعمق، واضفاء روح الفانتازيا المؤطرّة بالتهكّم أو المفارقة الخفية المؤثرّة، بقدرة فاعلة للمزاوجة بين الواقعي والفانتازي، والحلمية والكابوسيّة والحقيقية والمجاز، والخطاب الحكائي المنفتح على طاقة من الترميز والتأويل والإيحاء على وفق منطوق ودلالة العتبة الإشاريّة التي مهدّت للنصوص: "تأويلاً / أو تلويحاً، ثم تلميحاً، انفخ الروح في قصص ليست بريئة". (المجموعة: 5)، ولعلّ هذه الإشارة القصديّة أو الموجّه القرائي تكشف عن أن النصوص لم تكن في درجة الواقعية المطلقة بل تنطوي على ميكانزم (آلية) الخروج إلى المعاني والإحالات التي تكشف بكلّ براعة وقوة عن إشكاليات الواقع الملتبس الذي تتصدّى له نصوص المجموعة. في قصة (وعكة نفسية) قدّم إلينا القاص شخصيّة إشكالية وسط واقع مأزوم متمثلّة بشخصيّة الكاتب الذي يرغب الإقامة في مستشفى الأمراض العقلية بعد أن أدرك الآخرون بأنه مصاب بلوثة عقلية، ويرتكز السرد في هذه القصة على السرد الذاتي الذي يكشف عن اللّوثة التي لم يدركها الكاتب (الشخصيّة) بل إنَّ المجتمع قد صدّرها إليه، وتلك إشارة إلى إشكالية العلاقة بين الذات والآخر حين تكون الذات ذاتاً نخبوية "ذهب كاتب قصص مثلي – على باب الله – إلى مستشفى الأمراض العقلية لكثرة ما يلمّحون له بلوثة عقلية أصابته من دون أن يعلم، استقبله مدير المستشفى استقبالاً يليق بكاتب القصص المسلّية..." (المجموعة: 9)، والسارد في القصة هو كاتب قصص أيضاً يصف ويعبّر عن محنة نظيره، أي أنه يروي ما حدث لهذا النظير من أحداث ومفارقات ويرتكز المعنى في القصة على بنية مركّبة وإحالية، فإنّ المعاناة هي المشترك بين (السارد) أو الراوي والمروي عنه وتلك تقنية تعتمد المفارقة والرصد الثنائي ويكشف الإستهلال عن محنة كاتب القصص إزاء الواقع الذي يخلو من التناغم معه، وتأتي التهمة أو التوصيف المرضي من المجتمع وليس من إدراك الذات، علماً أن الكاتب لم يكن يكتب قصصاً تسبب الإحراج أو الإنكسار أو تفضح الواقع وقبحه لأنه يكتب قصصاً مسلّية، وتلك إشارة ذات دلالة تستقيم مع المعنى الخفي المراد، ويتعرض الكاتب إلى اختيار يقدّمه إليه مدير المستشفى حول قضيّة أو مسألة أو أحجية إفراغ الحوض من الماء بالوسيلة الناجعة التي تدلّ على حصانة العقل، ويخاطب السارد النظير والمتلّقي معاً ليكشف عن حقيقة أو أسلوب التعامل مع هذه المواقف الإشكالية: "الآن اخبرني، يا عزيزي، هل اخترت الدلو؟ أعلم أنك فعلتها مثلي، لأننا جميعاً لنا نصيب من الجنون تجاه الحياة التي نحياها، وربّما أكون أنا أيضاً ذهبت قبله لكني خجل من التصريح المباشر هنا...". (المجموعة: 8)، والقصة تنطوي على المفارقة والتقاط موقف يعبّر عن اليومي والمهمل والدواخل الضمنية التي لا يكشف عنها الإنسان عادة، وتعبّر القصة عن مفارقة إننا نخفي أشياء ونحتفظ بها، ولا نفصح عنها إلا لحظة إقدام الآخرين عليها..