تجربة هاشم تايه الفنية في معرضه (تسليات القانط، الخامس من نيسان ٢٠٢٥- جمعية الفنانين التشكيليين- البصرة) من التجارب القليلة التي تقرّب بين المفهوم التعبيري في الرسم، والتسريد العجائبي لأشكال ما بعد الرسم (الميتا- رسم). الأول: مفهوم اللوحة المنجزة بإنشاء تهكّمي تعبيري عاقل، والثاني ارتجال حرّ لفطرة التخييل المتمثلة برسم سكيتشات تخطيطية اعتباطية. لكن الرسام- الشاعر- السارد يشاء أن يجمعهما معا- اللوحة الكاملة مع أسلوبها التخطيطي الارتجالي- في طقس نفساني واحد، ويبعثهما من مرقده المُقصى من المفهومية الجاهزة للفن، باعتبارهما "تسليته" الوحيدة للانتقام من صورة الواقع السويّة. بهذا الإنشائين المتراوحين بين الاشتغال الواعي والفطرة الحرة اللاواعية، يقف زائرو المعرض متسائلين عن حدود التسلية الارتجالية وحقيقة القنوط التعبيرية، وهل يجوز مزجهما في مستوى إدراكي- بصَري وذهني- مشترك، من دون احتياط لسوء الفهم، أو السقوط في قنوط "تأويليّ" مقابل؟
جمع هاشم تايه بين عنوانين متعالقين في تجربة رسم واحدة: القنوط باعتباره عنوان قصة أو قصيدة دال على مفهوم واقعي- انتقادي، والتسلية باعتبارها تخييلاً بصَرياً نابعاّ من لعبة تصويرية، مفتوحة الحدود؛ وقصده من هذا التعالق تمثيل العلاقة بين الموضوعات ومعناها غير القابل للتفسير، أي عدم ترتيبها في علاقة سردية مفهومة. فالبداية والنهاية غير موجودتين على طرفي نص متجانس الأشكال في اللوحة، معا وفي لحظة تصوّر فورية. فحيث ترتسم الأشكال البشرية كي تفتتح علاقة تشبيهية بنمط معين من العلاقة الأسرية أو المؤسسية الجماعية، تشرع اللوحة بتجهيز نهاية نقيضة غير مفهومة أو متوقعة. وما يرتسم من مسرودات لونية، مرحة وبهيجة، صريحة وفاضحة، قد تبدو ثانيةً تحريضاً على فكّ العلاقة المعطاة وترتيب بداية ونهاية لها مختلفتين. أي: عند التمثيل بالأشكال المرسومة لإيجاد بديل معقول لها/ لأوضاعها، فقد لا يقابل ذلك غير ارتسامات أكثر اختلالاّ وشططاً عن المفهوم والمعقول في أي علاقة مماثلة (حتى بقصد التسلية لا غير). إذ وراء هذه التقابلات الملغزة تكمن قيمة التشابك بين التمثيل واليقين، التسلية المحضة والنقد الذاتي المرير للذات المتسلّية. (هل نقول بأن تجربة المعرض، التي تتجاوز الرسام لتقصد قرينَه المتسلّي برسومه، ستُلزِم هذا بوضع نفسه في موضع ذاك من القنوط والسلوان؟).
من ناحية ثانية، فلعل شطري التجربة اللذين جمعهما الفنان في مجموعتين منفصلتين، إحداهما مرسومة على القماش، والثانية ملصقة على خلفيات من تصاميم هندسية وأوراق دفاتر مكتوبة، أي ما سماهما الفنان بالمتن والهامش (في قاعتي عرض متجاورتين) قد تشيران إلى ما في التجربة من محاولة لجمع المفهوم والتقنية (القنوط والتسلية) على حدّ واحد من التمثيل والإقناع. ففي المجموعة الأولى يفرش اللون مساحات فارغة لتدخلها أشكال بشرية مختلفة الأوضاع، وإلى جوارها ملصقات سود لكائنات أسطورية محترقة، معالجة من أكياس بلاستيك مسطحة، على خلفيات خرائط لمتاهات مدنيّة. وفي الحالتين تبدو الأشكال المعالجة بتقنية التخطيطات الارتجالية (السكيتشات) عملاً مضطرباّ بيدٍ تحاول ضبط الإحساس بتوازن المساحة التصويرية: مقاومةُ الفراغ بإدخال أشكال بشرية غريبة، مخربة ومشوهة، تحاكي ما يحاول العقل نقضه باعتدال ومنطق سويّ لعلاقات ما بعد الواقع المرسوم. ونكاد نحدد المكان الغامض (مصحة عقلية، مسلخ للحوم، مقهى حشاشين، منزل فوضويّ، متاهة مدنيٌة تعمرها الأحلام) وراء الأشكال البشرية والأسطورية، الداخلة معاً على المتن الواقعي المخرَّب. إن كلتا المعالجتين- الملونة والسوداء- تكاد تبلغ درجة الانفجار بما تحمله من حركة مجنونة فائضة على مساحة اللوحة (حوى النوع الأول من المعرض لوحات كبيرة، إلى جانب لوحات النوع الثاني المتماثلة في حجمها الصغير).
تأتي الرسوم اللامنطقية بحججها من خارج اللوحة لترتسم ضمنها باسنادات مفهومية سردية، يُضمرها الفنان من ممارسته فنَّ الكتابة الأدبية، حتى لتكاد تلك تضج في إطارها كحفل صامت، يريد التعبير عن حالته الخليطة بين العقل وفوضاه اللاواعية. تماما، وكحفل صامت، فإن الأشكال لا تكفّ عن التعبير عن حالات عدم الاستقرار في وضع تشكيلي متزن. إنها حالات القلق المزاحة من حقل الكتابة إلى حقل الرسم في أدق تعبيراتها الما ورائية: بقصد أن ندع الأشكال تتكلم/ تواصل كلامها المقطوع تحت ضغط الممنوعات والوصايا العاقلة. وكأننا نعيد رسم أجواء مسرحية جرَت في مصحّة عراقية شبيهة بمصحّة شارنتون التي حُبِس المركيز دي ساد خلف جدرانها. أما شخصياتها فصُوَر مموّهة من حياة الفنان نفسه- من شعريات كتاباته- تطابق تسلياته ومرحه المكبوت. وما نكاد نبدأ بالتصريح بتفسير نفسي نريد له أن يتوسط بين اللوحة ومشاهدها، حتى يشرع الوقتُ والمكان- الفضاءُ التاريخي للمعرض- بإعادتنا إلى سويّتنا المنطقية، وقراءة المعروضات بمداخل ملونة ومخططة وملصقة بأفضل وضع ستاتيكي مطلق- الجمال، رغم جنون الجسد الطائر بصحبة غيلانه العارية والجامحة.
وعند هذا الحدّ التناصيّ، يكاد النصُّ الستاتيكي- البصَري في لوحات هاشم تايه يفسر تمثيلاته الما ورائية لمفردة شائعة في رسومه، السرير، بهذا المصدر السردي المؤوَّل من كتابه (السرير، الجسد في خلوته، دار خطوط وظلال، عمّان، ٢٠٢٤): "بوسعنا أن نعدّ الأسرّة تماثيل نحتتها أجسادنا، يمكن نصبها في قاعة غاليري عريضة لتصف غيابنا عن الوعي، ذلك الغياب الذي يعيد تصفيف قوانا، تحضر في مجراه إنشاءاتُ الجسد المحتجبة، وتعبيراته الداكنة، وأفعاله اللاهية المرحة، في وجوده الظلّي الساحر". (ص ٤٧)
وعندما نتمادى أكثر في تتبع مغاور التجربة الماورائية للرسم- متاهة الأشكال الحرة لمعرض (تسلية القانط)- فسنرى مفهوماّ مجازياّ آخر يدعوه هاشم تايه ب"شعرية الرسم" وهي: "طاقة الشعر تصطبغ لوناّ، وتتحرك خطّاً، وتُرى في تمثيل على سطح تصويري في لوحة رسم". (الشعر والرسم، هاشم تايه، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ٢٠٢٤، ص ٦٩).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- هامش:
نظّمت جمعية الفنانين التشكيليين في البصرة بتاريخ (١٥/ ٤/ ٢٠٢٥) جلسة خاصة لمناقشة الانطباعات المتحصّلة من معرض الفنان هاشم تايه.
وبقدر انتقال الفنان من الرسم التخطيطي والكولاج إلى الرسم الصافي، جرت مناقشة العلاقة السردية بين نصين، حكائي أساسي وبصَري متحوّل عنه. وجاء المعرض باستئناف تلك السرديات المضمَرة وتحميل اللوحات بما يعتمل من مراجع نفسية وتاريخية مستقرّة في ذاتية الفنان، فأصبح ملمسها محاكاة سردية واستثارة دلالية ملحقة بها. لقد جاءت اللوحات لتملأ حياة الفنان "الكئيبة" أو "القانطة" بقدر من "التسليات" المؤقتة، كما أعلن هاشم تايه في عنوان معرضه، غير أن هذه المواجهة حرّكت ظنوننا عن أنفسنا- على الجانب المقابل لها- وادّت إلى استبدال وهمٍ بوهم، ومظهرٍ بباطنٍ شعوريّ منيعٍ على النسيان والإهمال.
وفي الحقيقة، فإن "القنوط" أو"االسأم مفردتان سرديتان شعوريتان، مقحمتان على البنية التناصية للوحات، عمد الفنان هاشم تايه على الإيحاء بها على سبيل الجذب والمحاورة الممتنعة بين صنّاع الفن ومستهلكيه الثانويين. وإذا كان السطح التلصيقي في القسم الهامشي من المعرض يحيل إلى عالم موحش وأسطوري، فإن جنس العلاقة الرسموية الشعورية في المتن الصافي من اللوحات يحيلنا إلى العلاقة النصّية بين اللوحة وخزينها السردي- اللاشعوري. هذا ما يُسفِر عنه حوارُ اللوحة مع الآخر الذي يتعجّل اختتام نزهته، قبل العودة إلى عالمه "القانط" والكئيب. أليس محتملاً أنّ هاشم تايه نصبَ لكلّ فرد من زائري معرضه فخّاً، بهدف كشفِ علاقةٍ متخيّلة من علاقات الحياة النفسية الداخلية يأنف الزائر من البوح بها؟
يقال: "إن الصورة الفوتوغرافية قد تكذب". وليس بعيداً عن هذا الظنّ الخادع، فقد تبدو اللوحة التشكيلية أداةَ خداعٍ وتعمية، أو لهوٍ وتسلية. غير أنّ هاشم تايه يبدّد مثل هذا الظنّ في حقل ثانٍ من الإبداع، هو حقل الكتابة السردية. فلوحاته- في حقيقة تفسيرها- ترجمة بصَرية لنصوصه القصصية المكتوبة بإتقان لغويّ وتحليل نفسانيّ مشدَّد. وفي كتابه الأخير (السرير، الجسد في خَلوته) ما يساعدنا على كشف اللعبة التصويرية، وتناقل المفردات الحكائية. (نلاحظ أن اثنتين من لوحاته اللونية الكبيرة استعارتا مفردة- السرير- واستخدمتاها في تركيب وضعيات تهكّمية ونصّيات سردية). وعلى هذا النسق الاستعاري، سنرى هاشم تايه يحوّل مدّخراتٍ من نصوصه الحكائية إلى لوحاته، ويقبض على أثر منها ضلَّ سبيلَه نحو قارئه الفعلي فيركّب منه وضعاً بصَرياً تماثلياً. السارد- الحاكي عن حالات "سريرية" يضخّ إمدادات غير مشهودة في لوحاته "التشبيحية". الرسوم كالحروف الكتابية قد تهيم عن موقعها وتمرح بعيداً عن ذات مؤلفها، فإنْ لم تجد مَن يفهم مزاجها السلبيّ، فقد تتركّب على نحو غير مفهوم في موقع آخر- صورة فوتوغرافية، لوحة تشكيلية، فيلم سينمائي، جِدار- أو تضيع وتختفي تماماً عن الأنظار؛ لكنها في كل الأحوال تعمل على إبقائنا على اتصال بأثرها. وهذه هي قواعد اللعبة التكافلية، المفروشة على جانبي السرير: رسماّ وكتابة.