برحيل ماريو فارغاس يوسا، غاب كاتبٌ نوبليٌّ عالميّ، بل طوى فصلاً من فصول النضال الإنساني ضد الطغيان والفساد، فصلٌ كتبه يوسا بالكلمات، لكنه كان أشبه بالرصاص في وجه القمع. الكاتب البيروفي، الذي أمضى حياته ما بين سطور الرواية ومواقف الفكر، لم يكن يوماً مجرد روائي، بل كان "صوتاً"، وصوتاً عالياً في زمن الأصوات الخافتة.
في روايته "البطل المتكتم"، يقدّم يوسا نموذجاً لذلك البطل الذي لا يرفع شعارات ولا يتحدث كثيراً، لكنه يقاوم من الداخل، بصبر وصلابة، ليصنع فرقاً حقيقياً في مجتمعه.
هي رواية عن رجلين بسيطين في الظاهر، لكنهما يواجهان منظومة الفساد والتسلّط بهدوء الأبطال الحقيقيين. ومن يقرأ الرواية، لا يحتاج أن ينظر بعيداً ليجد ظلال ماريو نفسه في كل صفحة: الكاتب الذي رفض الانخراط في لعبة الطغاة، والذي لم يجامل السلطة، وظل متمسكاً بالمبدأ حتى الرمق الأخير.
كان يوسا يؤمن بحرية الفرد، لا كشعارٍ استهلاكي، بل كحقّ مقدّس، لا يجوز التنازل عنه. حارب الاستبداد بكل أشكاله، وانتقد كل ما يحاول تقييد الإنسان أو إذلاله.
وفي زمنٍ تتماهى فيه الثقافة مع السوق، بقي يوسا يكتب عن الإنسان، عن جوهره، عن مقاومته اليومية للظلم، وهو ما جعل رواياته تعيش خارج اللحظة الآنية وتبقى شاهدة على عصور.
"البطل المتكتم" ليست مجرد رواية، بل مرآة لفلسفة يوسا: أن التغيير لا يحتاج ضجيجاً، بل يحتاج ضميراً. وكما بطل الرواية قاوم بابتسامته وإصراره، قاوم يوسا نفسه بقلمه، بمقالاته، بمواقفه، وظلّ ذلك "البطل المتكتم" في زمنٍ صاخب.
برحيله، يُخيم حزن ثقيل على أرواح من آمنوا بالكلمة الحرة. ليس من السهل أن نفقد من كان يكتب ليوقظ، لا ليُسلّي فقط. نشعر وكأن العالم صار أكثر صمتاً، وأكثر هشاشة، حين يغيب من كان صوته شجاعاً بقدر ما كان إنسانيّاً.
وعلي الرغم من كل شيء، يبقى فينا شيء من ماريو…
من مقاومته، من إيمانه، ومن أمله العميق بأن الكلمة تملك قدرة التغيير، ولو بعد حين.