تنفرد رواية (تنظيف الماضي) للشاعر جليل حيدر، عن الروايات التي كتبها شعراء، بالفصل الصارم ما بين لغة السرد، ولغة الشعر، التي غالبا ما يجد كتاب تلك الروايات صعوبة في تلمس الحدود الفاصلة بينهما، بفعل ما يمكن ان نسميه – اذا جازت لنا التسمية ب (التنافذ)، الذي يحدث عند انتقال الكاتب من جنس إلى آخر ، مع التنويه إلى ان هذا لا يُعد مثلبة على السارد المعروف باشتغاله في هذا الجنس الادبي.
من الناحية الأسلوبية نستطيع القول ان الشاعر تمكن من احداث القطيعة بين جنسين ادبيين خاض غمارهما، وأخلص الانتماء إلى عالم الرواية ، مع انه من الناحية الناحية الفكرية والموضوعات عمّقَ ما تناوله في تجربته الشعرية ، خاصة في ديوانه الشعري المهم (طائر الشاكو ما كو)، في اقل تقدير هذا من ناحية فهمي المتواضع للنص الروائي .
فقد قدم لنا جليل حيدر في ديوان ( طائر الشاكو ماكو) ، صور شعرية مكثفة بمثابة (مانشيتات) لوقائع الألم ، والعنف التي عاشها الشعب العراقي في سنوات القمع، واشاعة الخراب على ايدي الدكتاتوريات بمختلف تسمياتها، وتنوع وجوهها واشكالها، وجاءت روايته ( تنظيف الماضي) لتعطينا تفاصيل تلك ( المانشيتات) بجرأة، وبحساسية الشاعر المفرطة، وخبرة الروائي الذي يستثمر ويوظف كل ماتتيحه له ثقافته، ومعطيات الواقع في بناء شكل روائي ينطوي على اجتهاد كبير، من دون تردد الذي غالبا ما يلازم الانتقال من منطقة مألوفة إلى منطقة جديدة !، حيث نجد صور الواقع مجسدة بعين الروائي، مبتعدا عن الصور الذهنية التي كثيرا ما استدرجت اليها الشعراء الذين كتبوا روايات، ولا أحسب ان بقية الشعراء الذين دخلوا ميدان الرواية لايمتلكون هذه السمات، لكن الانتقال من منطقة مألوفة الى منطقة جديدة تحتاج الى جرأة، ومران، وحرية للتمتع بهذه السمات عند كتابة العمل الروائي.
تنتمي رواية (تنظيف الماضي) إلى نمط سردي يصطلح عليه (نوفيلا)، أي الرواية القصيرة، ولانريد ان ندخل في اشكاليات هذا المصطلح ومدى ثباته، لكن نقول على الرغم من قصر الرواية فانها أمتدت على مساحة زمنية واسعة، من انقلاب شباط عام 1963 حتى سنوات مابعد سقوط الدكتاتورية في العام 2003، مرورا بسنوات المنافي والعودة المتكررة للتاريخ القديم والحديث .
ان استيعاب كل هذه المساحة الزمنية بكل تحولاتها في رواية قصيرة هو ابلغ تعبير عن مهارة الكاتب الذي جعلنا نقرأ النص بوصفه ترنيمة بكاء، أو نواح على أحلام انسان بلاد الرافدين التي دفنتها حفلات العنف السلطوي في ارضه!، لكن ما ان تنتهي سطوة الجلاد حتى تورق هذه الاحلام من جديد لتجد سيف جلاد جديد، او طاغية بزي جديد!. وهذا ( الاستيعاب) وحده يدعونا الى تفحص ادوات وتقنيات الكاتب التي مكنته من ذلك ، فعندما نقول؛ ترانيم لا نعني صياغات لغوية، وإنما وقائع ميدانية وتفاصيل دقيقة في جغرافية محددة، جاءت بروح شهادة عن تجربته شخصية في لحظة مفصلية في تاريخنا الحديث سياسيا واجتماعيا، خاصة تلك الاحداث التي جرت في مناطق (باب الشيخ) و (عكد الأكراد) اثناء وبعد انقلاب 8 شباط، فقد وفرت لنا التفاصيل الصغيرة التي اعتمدها الكاتب فرصة فهم الاحداث الكبيرة بشكل مباشر بعيدا عن تأويلات، وتنظيرات الخطاب السياسي، وأولها الانقلاب الدموي في شباط الاسود، حيث تناول الكاتب مجموعة صغيرة من خمسة اشخاص بسطاء ، اخذوا على عاتقهم الثأر للابرياء، والاطفال، والنساء الذين قضوا على ايدي الحرس القومي، اليد المنفذة للانقلاب ومجازره، بدافع الحفاظ على الشرف الشخصي، والوطني، وليس بدوافع سياسية ايديولوجة صرفة، وهذا لايمنعنا من النظر الى هذا الفعل من زاوية اخرى، زاوية توافق الايديولوجيا مع الشرف الشخصي والوطني، خاصة مع تلميحات إلى الخلفيات الشيوعية لبعضهم.
أخذت هذه المجموعة على عاتقها مهاجمة احد مجاميع الحرس القومي الذين اتخذوا من (مركز شرطة منطقة الخلاني) مقرا لهم، تمكنت من اقتحام المركز، وتقييد عناصر الحرس القومي، واخذ اسلحتهم، وقفل المبنى عليهم والهرب، من دون ان يقتلونهم! - قد تكون هذه بقصدية من الكاتب كي يبعد عن افراد المجموعة صفة الجريمة والقتل، على عكس الانقلابين الذين يختارون القتل ، والتفنن في طريقة القتل!.
لعل ما مكن الكاتب في سرد كل هذه الاحداث المهمة، ومساحتها الزمنية متعددة التضاريس، في نص قصير هو تحليقه الحر في الفضاء السردي وتوظيف كل ما يعزز تفصيلات النص، ورسم اشكال الشخصيات، وهذا ما لاحظناه عند توظيفه (الببلوغرافيا) في تقديم الشخصيات الخمس لاضاءة حياتها من دون استغراق وصفي :
(الاسم : خليل ابو كطوف.
الهوية : كردي فيلي 18 سنة
الميزات: إملعّبْ.
مُنكت، مقنع بالحديث...) ص16
وعندما يريد ان يخبرنا عن مقدار العنف الذي بلغته حياة البلاد، التي تعيش فيها هذه الشخصيات يلجأ الى التاريخ بوصفه ينبوعا انحدر منه الحاضر بكل اشكالاته كما في وصف سجن الحجاج :
(ووُجد في حبسه مائة الف واربعة عشر الف رجل، وعشرون الف أمرأة، منهن عشرة آلاف مخدرة وكان حبس الرجال والنساء في مكان واحد ن ولم يكن في حبسه ظل ولا سقف ....) ص20 .
باعتقادنا ان الذي مكن الكاتب من استيعاب هذه المساحة الزمنية الواسعة، وما حفلت به من احداث، وانعطافات حادة في تاريخ البلاد زمنيا من شباط 1963 حتى هيمنة طغمة الفساد والتخلف على مقاليد الحكم في وقتنا الحاضر، وتنقلها على جغرافيات وبيئات مختلفة ؛ بغداد كردستان، بدرة وجصان، لبنان، السويد التي ركز عليها بشكل ملحوظ كونها اصبحت احدى اهم حواضن الشخصيات الهاربة من جحيم الدكتاتورية ، هو ثراء تجربة الكاتب (مثقف ، سياسي ، منفي..)، لذلك يتحدث بدراية وهو يكشف لنا التناقض في سلوكيات شخصيات المنافي؛ دينيا واخلاقيا وفكريا، وكذلك لجوئه الى تقنية ( البقع الضوئية )، التي انقذت النص من الوقوع في التقريرية، والمباشرة، حيث يعمد احيانا الى ذكر الشخصيات باسمائها الحقيقية. هذه التقنية (البقع الضوئية) اعطته صلاحية مدير الاضاءة وحريته في التنقل بين الاماكن والازمنة بحرية وسهولة، واحيانا باكثر من عدسة في آن واحد، وهذه من ميزات الكاتب في هذا النص ، حيث نجد التذكير بتاريخ العنف في هذه البلاد، فتظهر لنا مثل صورة مائية تشكل خلفية لاحداث ميدانية على مسرح الحياة ، امثلة على ذلك؛ (ما فعله الحجاج في ولايته على العراق)، (هجوم الوهابين على كربلاء)، (بيت السبايا في فترة داعش)... وهذه جميعها تُعد مفاتيح لتاريخ واسع من العنف والدكتاتوية والفوضى التي يبدو ان لا نهاية لها ، وقد يكون اقتباسه لقول بشر الحافي البغدادي الذي نختتم به مقالنا خير ما يعبر عن جوهر هذه الرواية :
(يأتي على الناس زمان تكون فيه الدولة للحمقى ) .