أسئلة من قبيل لماذا مثل هذه المهام الكبرى التي نضعها على عاتق المسرح وعناصره؛ وهي أسئلة باتت كلاسية بسبب من توافر إجابات جدية كبيرة، منها أن المسرح لا يقف عند تحفيز الخيال الإبداعي المُنتِج وطاقة التفكير النقدي عند جمهور الفرجة ولا كونه قادراً على تشخيص مشكلات المجتمع الإنساني وحركة متغيراته وصراعاته وإنما أيضا وبصورة فاعلة مؤثرة الحفر عميقا في الإنسان وذهنيته وعقله ومنطقه ومنهجه في الحياة بما يمكّنه [الإنسان] من التدرّب على النظام واحترام القوانين والأعراف التي يمتلكها وتبادل الاحترام مع الآخر انطلاقا من عمق الاعتبار للوجود الجمعي المشترك، ما يدعم معالجة مختلف القضايا الاجتماعية والأخلاقية بالمعنى الأوسع للمصطلح بما يوفر فرص اقتراح البدائل والحلول.
والمسرح بهذا المعنى ليس مجرد وسيلة ترفيه مفرغة من المعاني والأهداف السامية للوجود الإنساني، بل هو سيد الفنون بما يمتد ليجسد قضايا الحياة الإنسانية باختلاف مستوياتها وأنماطها، اجتماعية، سياسية ثقافية وغيرها. والمسرح يسلّط الضوء على تلك القضايا بتنوعها من اجتماعية وثقافية وسياسية بما يجذب جمهور الفرجة تحديداً نحو التفكر والتدبر ومن ثمّ النهوض بالفعل الإنساني حيث يدعم ولادة الإلهام وإنتاج الرؤية الأنجع للعيش والتعامل مع عالم أو بيئة يحياها الإنسان..
في ضوء مجمل ما أوردناه هنا فإننا نجد أنّ المسرح في العراق الذي ناهز عمره القرن ونصف القرن تقريباً؛ قد تأصَّل وامتلك خبرات عمل و صِلاتٍ استطاعت أن تصنع جمهور الفرجة بكل ما يعنيه المصطلح من الروح الجمعي للجمهور وامتلاك الخصائص النوعية بخاصة منها الانتماء لمجتمع الحداثة المعاصر ومنطقه المتمدن ونهجه التنويري..
وعلى الرغم من تراجعات بميادين السياسة وخطابها وبميادين الشؤون الاجتماعية حيث الالتفاف على مستويات التقدم والتفتح وكل ما فُرِض قهريا من قيم التخلف ومنطق الخرافة أو لا منطق الأضاليل وأباطيلها في السنوات العجاف الأخيرة إلا أنّ أجيالا متقدمة بروحها التنويري ما زالت متمسكة بما توصلت إليه وإن تم تقييدها بأصفاد وأغلال لعبودية أو سطوة ما يزعم تمثيل (العصمة) المطلقة للدين السياسي ونهج الخرافة وإفرازاته!
لهذا السبب مازالت المهمة تكمن في إعلاء دور المسرح في استعادة خطاب التنوير والتمدن وقيم الحركة الديموقراطية التقدمية اجتماعيا سياسيا..
لقد أدركت قوى الاضطهاد تلك الحقيقة لهذا السبب حولت تلك المباني المسرحية وصالاتها إلى مخازن أو أماكن مختلفة التنميط والاستثمار؛ وصل ببعضها الحال إلى أن تكون خرائب تُرمى عليها الأنقاض والنفايات كما حدث مع مسرح بغداد لسنوات طوال عجاف..
واستهدفت تلك القوى كل من يُعنى بصالات المسرح والسينما وعرقلت أية محاولة لإحيائهما أو إيجاد بدائل لها.. وهي في المرحلة الراهنة تتخذ من أساليب جديدة وسائل إقصاء وقطع الطريق على المسرح بطريقة لم تعد تقف عند حدود تخريب مباني المسرح ولكن هذه المرة، عرقلت احتفالياته وقدرة إنتاج أي عمل مسرحي أو اختلاق العراقيل لتشويه إنتاجه بالصورة المؤملة لنضج ما يمكن أن يلعبه من دور..
وربما بين التعمُّد وبين الالتباس ظهرت علينا أنماط ترتدي لبوس المسرح بمسميات تتلحَّف المنظومة القيمية للدين السياسي ولبطولة شخصيات بعينها على أساس تحميلها رموز العصرنة والحداثة ولكنها بالمحصلة تقع فريسة شكلانية لا تُنتِج سوى دعم المسار العام للتراجعات بمستوياتها الفكرية: سياسية منها واجتماعية ما يأسر المجتمع خلف تلك الخزعبلات واشتغالاتها.
لذا بات على المسرح العراقي في يومنا أن ينعتق من اللعبة ومؤشرات آليات اشتغالها لينهض بمهامه التنويرية وهي مهام أدخل في الأنسنة والتمدن الذي بدأ مع مجتمع المدينة ودولتها ليواصل مشواره حتى مراحل عصرنا ومنطق الحداثة فيه..
والعراق اليوم بحاجة للمعالجات الجمالية التي عُؤِف بها المسرح لقضاياه وما أكثرها سوى أننا بحاجة للجرأة والشجاعة وإقدام مبدعاتنا ومبدعينا على التناول وكشف المستور الذي يتخبأ خلف أردية الادعاءات والمزاعم وكأن شيئا لا يحدث لكن المسرح قادر على التحدي وتقديم ما يراه من معالجات بحرية واستقلالية وسلامة موضوعية..
فهل سنجد أنفسنا اليوم بمنطقة العمل الإبداعي الجمالي للمسرح وبمضامينه المعروفة أم سنبقى بمنطقة الابتزاز والتراجع لصالح سطوة خطاب الخرافة وما فرضته وتفرضه من خطاب مشوه!؟
ثقتي وطيدة بأن مسارح المقهى والبيت والشارع وكل تلك الأنماط المفتوحة ستتمكن من توفير تراكمات كمية لتحول نوعي يتناسب وطاقة تمسك المجتمع بإنسانيته وبحقوقه في معالجة شؤونه بعيدا عن رغبات الاستغلال وقواه أيا كان ما ترتديه وتزعم التعبير عنه..
فلنشرع في استعادة تجمعاتنا المسرحية من فرق إبداعية وجمعيات ومنظمات وروابط للكتابة والأداء وللحركة النقدية ولمعاهد وكليات الدراسة والتدريب سواء منها المرتبطة بالتعليم ومنه التعليم العالي أم المرتبطة بالحركة الإبداعية حيث العمل بوصفه منصة من منصات التمكين والتدريب والدراسة..
ولنشرع في الاشتغال بتمكين التخصصات العاملة في ميادين المسرح من فرص التشكّل ومنها جمعيات أكاديمية وغيرها المهنية الإبداعية ولنضع جوائز باسم الحراك الشعبي من قواعد العاملات والعاملين في ميادين المسرح بلا رتوش أو قيود أو نظرات سلبية مسبقة.. لعل جوائز الجمهور واستفتائه والنقاد والناشطات والنشاطين بالميدان هي أول تلك المهام..
أما الاسترخاء خلف ما قد يبدو أنه متاح فإنّ فرص استثماره ستكون إيجابية فقط عندما لا نسمح بتجيير المتاح للسلطة أيا كان مسارها لأن الإبداع ليس مأسورا لسلطة سوى سلطة المنظومة الإبداعية نفسها وأدوارها الجمالية والمضمونية..
ولهذي المعالجة تحية تتوقف عندها لكل مبدعات ومبدعي مسرحنا العراقي بتنوعات لغاته وتعبيراته وارتباطه بالتعدد والتنوع في مجتمعنا العراقي المعاصر..