تبدو أعمال الفنان العراقي علاء بشير كما لو أنها تغرق في نِصفِ ميثولوجيا_ نِصفِ معاصَرة، وتغرف مكوناتها التشكيلية من نصفِ حلم_ نصفِ واقع، وتطرح إمكاناتها في أن تكون أصولاً نِصف تأويلية_ نِصف تقريرية، نِصف بشرية_ نِصف حيوانية، مزيجاً ذاتياً مفعماّ بطاقةٍ لا محدودة من التحول بين العقل والمادة. إنها بتلك المشتركات والتأويلات تبدو نُسَخاً نِصفية مشتقة من مصادر الفن البدائي وصور العقل المحبوسة في مختبر الطبيعة والنفس والعيادة الطبية. وليس هناك من وصف مرجعي دقيق لمزيج النفس والجسد في لوحات "بشير" سوى أن ننسبها لبحث نفساني_ طبّي دائب التشريح للجلد البشري_ السطح الوهمي لصورة العالم وأساطيره التاريخية والاجتماعية. لكننا، وإذ نتعمق في تشخيصنا لمرجعيات علاء بشير التصويرية، تختفي صور الوهم التصويري، والغرض الشعائري/ الطقسي، لتبرز قوة التمثيل الفني_ الصريح للوحات، وتتنزّه أشكالها من الغرض الشعائري/ الطقسي، برواجعه السياسية والاجتماعية. أما المادة الأولى، الإنسان المحدود بمكوناته التشريحية، فينكشف للعيان نصاً بَصَرياً عميق الغور، واسع الدلالات. كلما تقرّبَ البحث في لوحات "بشير" من الرموز الباطنية، الطوطمية، المتدرجة في البروز والتشكل_ كرمز الغراب والكرسي_ وجدنا رؤيتنا هذه تتراجع إلى الوراء، لتتقدم الأشكال الإنسانية الممسوخة، دليلاً على الاقتراب من مرحلة جديدة للتصوير والتمثيل في فننا المعاصر. وكلما احتاج التأويل (خاصة في سلسلة اللوحات المراوحة بين الغراب ورموز شعائرية أخرى، كالمزاوجة بين كائنات أسطورية مركبة الرؤوس) احتجنا إلى مقاربة سوسيولوجية تستخدم الكائنات المصوَّرة في أوضاع طقسية، لتمثيل الوضع الراهن بمداخله العديدة، غير المهيأة للمسِ والمشاهدة. فمثلا، قد نعثر على سردية مرجعية لشعار سلطوي مهيمِن على النفس المغلوبة، أو الذات المطاوِعة لأشكال من النُظُم الشمولية، في مزيج حيواني، ثلاثي الرؤوس_ ثور وصقر وسمكة_ خطّطه "بشير" بعمق تعبيري، يذكّرنا بأحد رموز أفلاطون للقوة المتوحشة، التي يأكل كل رأسٍ فيها رأسَ الآخر، تمثيلاً لحقيقة الدولة في عصر التغوّل والسطوة التوتاليتارية. وأظن بشيراً صبَّ خبرته السردية_ التمثيلية_ في ذلك التخطيط، الذي يتوسطه ثور آشور المجنح، ليدل به على استحالة الانفكاك بين الرمز وشعائريته التاريخية في تشكيل صورة الدولة العراقية. إن الحاضر، بصوره التكنولوجية_ العلمية، يتجسد في لوحات بشير عبر متلازمة "الأسطورة_ النفس_ الهيمنة" في أفضل تشكيل محكم التفاصيل والأبعاد الفنية.
لا تبتعد لوحات "بشير" الأخرى عن هذا التحكم_ التشريح الدقيق لجِلد اللحظة المعاصرة، وهي لحظة ممزوجة هي الأخرى من سردية النفس الأسطورية المروَّعة وهيمنة المثال_ الرمز_ الشعار الشامل لحقيقتها الاجتماعية الكلّانية. لا فكاك من تأويل الأشكال الرمزية_ المشرَّحة بمبضع الفن_ على أساس الارتباط العميق بين التعبير المبطّن للنفس والبَشَرة المكشوفة للواقع التي ترتسم عليها شتى أشكال الترويع والفرار من الظلم والتشويه الأخلاقي. فما نشاهده من صراع تأويلي لأشكال الباطن النفساني، تفضحه الوجوه بصرخاتها المكتومة_ الوجوه المنثورة الشَّعر، الغارقة في لجة المياه، المستوحدة في فضاء خالٍ من الدلالات الجغرافية. وفي غالب لوحاته، يعمد الفنان إلى إضمار طبوغرافية بعيدة عن موقع اللوحة الأخير_ مكان العرض الأخير_ حتى لتبدو مقطوعة الجذور عن أصولها، بينما تُصرّ هي بذاتها على قرابة بيولوجية_ اجتماعية، لا تقل إضماراً عن الهواجس النفسية التي رسمَ الفنان بها أشكاله المروَّعة. ولا يسعنا تصديق مَن يزعم أن الفنان "بشيراً" قد لجأ إلى تصوير أشكاله الإنسانية وكأنها استسلام لهيمنة الرموز الشعائرية التي تحكّمت بوجوده في العراق، خلال فترة الحروب المأساوية؛ بل نزعم_ على الضد من ذلك_ أن هذه الرموز وجدت مراحاً خصباً للظهور والتلاعب بتشكيل أسلوب "بشير"، من دون حرج أو خفاء، في جغرافية ثانية، أي بعد هجرته عن العراق.
ثمة رابط للخط العميق واللون المكثّف بالجو المنقول باكفهرار شديد، ودقة مفرطة في الوسواس القهري للأشكال الإنسانية، المترادفة كموديلات مأسورة. الأعضاءُ البشرية أيضاً تنفصل عن أجسادها في بعض اللوحات كي تتبرأ من أفعالها السابقة على قطعها وترسيمها في سياق تعبيري غير مُبرأ من الرؤية الفاضحة (العين مثلا، التي تنتظم في المجاز القرآني: يعلم خائنةَ الأعيُن). وأضلاع القفص الصدري وامتزاجها بشكل الكرسي (ما تخفيه الصدور من الأسرار). والأيدي (ما تقترف من أعمال شائنة أو صالحة) والجثث (وما تؤول إليه في التراب والطين). لكن الوضع الأنسب للقَطع التشريحي/ الانتزاع التعبيري_ فوق الإنساني، هو في تصوير حالات من المسخ الشامل للجسد، وتقريب عذابه من رؤى يوم الحَشر في النصوص الدينية. وللمرة الثانية فإن التبرؤ من هذه الرؤى_ تصديقها أو نفي تأثيرها_ يسير جنباً إلى جنب مع تنزيه النفس من الآلام والكروب، التي يصعب قياس غورها التعبيري، لدى فنان مرهف الإحساس، متخلّق بمسؤولية الفن، في درجة أولى. (يروي علاء بشير، خلال حديثه في معرضه بدبيّ، شباط 2023، عن مشاهدته حادثة نقل جثث ثوار ١٩٩١ إلى قاعة كبيرة، جثث مغطاة بالطين، مفتوحة الأعين، وبينما كان يتجول بينها رأى العيون تنظر من خلاله إلى نقطة بعيدة لا يراها. أما الطين الذي يغطي الجثث، فكان تحسسه إياه إلهاماً باستخدامه مادة أساسية في منحوتاته، التي يستحيل التعبير عن أوضاعها الكابوسية بوساطة مادة أخرى كالحجر والبرونز).
يندر أن تحققَ مثل هذا التصوير الشامل والغزير في الرؤى التشريحية، والخامات الطبيعية _كالطين_ عند فناني "عصر البراءة" العراقي_ عصر ما قبل الحكم الشمولي. لقد حدثَ ما يشبه عبور "مَطهر" الكوميديا العراقية في رؤيا علاء بشير التشكيلية، بما لا يقاس من المعاناة والشعور بالذنب الجماعي لدى فناني عصر النهضة الوعظيين في أوربا (مثلاً رؤى الدينونة في لوحات هيرونيموس بوش الهولندي). سنرى امتزاج الرؤية الفردية لعلاء بشير بالعذاب الجماعي على أشدّه، كلما لجأنا لمقاربة تاريخية غير مألوفة في السرديات السياسية والاجتماعية. وللمرة الثالثة فلا سبيل لإثبات الإدانة من عدمها كما صورها فنان من مواقع عذابنا الجماعي. وعلى العكس من فضائح الواقع العراقي القريبة (المصوَّرة بلوحات الكولومبي فرناندو بوتيرو) فإن تمثيلات علاء بشير الانسانية تغور أكثر فأكثر في البنية الرهيفة للجسد، المرشَّقة إلى أصغر الأعضاء وأبعدها عن اللمس والتجسيد العياني، كما وردَت في السجلات السرية للحالات الفردية، المنقولة بلمسات صادقة. استقرت أعمال علاء بشير (الرسوم والمنحوتات والتخطيطات) بعد فترة انتقال قصيرة، من ضفة "عصر البراءة" إلى ضفة التبرؤ/ التطهير النفساني_ ما بعد الحكم الشمولي، واستمرت بتوليد المساحات البديلة لهيكل الجسد المستباح بمبضع الرمز الشعائري. أصبح نَسَب اللوحة للفنان واضحاً وصريحاً، بحسب قدرتها على التحول والانزياح عن موقع التأويلات المضادة. أما التقنيات التعبيرية، التي رسّخت معالمَ التبرؤ التطهيري، فقد اكتسبت حيوية ذاتية في الاستدلال على مفهوم صريح وحرّ وواسع الأرجاء، للتداخل اللوني والتعميق الخطي بحجوم وأبعاد عبر _ إنسانية، فوق واقعية. لم يغادر "بشير" منطقة الإنسان، لكن أعماله ترادفت في نزعتها التشريحية لدحض الزيف الإنسانوي، المستغَّل لغايات شعائرية. وبطريقته فى النظر تحت السطوح، برزت للعيان تركيبات تصويرية لم تخطر على بال مشاهد، من هذه الضفة أو تلك. إن علاء بشير يُرغم مُشاهِدَه على تتبع خطواته المتلاحقة بلا إبطاء، لإدراك مفاهيم ما بعد عصر البراءة، وتقنياتها التشكيلية_ التطهيرية.
غدا الإنسان، بطبقاته التشريحية الخافية، مكشوفاً، تحت أضواء مسلَّطة على وجوده الذاتي والاجتماعي. ما عاد فرداً معزولاً، في مَحجر أو مقبرة، بعد انكشاف السواحل المديدة للذاكرة التي يحملها الفنان أنّى رحَلَ، ويستعمل مدخراتها لدحض النسيان_ التجاهل_ الرفض_ عبر الحالات التقنية الفذة، والخطوط المنحلّة إلى أبعد النقاط الضوئية. وفي هذا المعنى، يقول علاء بشير عن معرضه "نسيان"_ مؤسسة العويس في دبي_ شباط ٢٠٢٣، ما يلي: ""بعد تفكير طويل، توصلتُ الى قناعة أن الإنسان في الحياة يرحل بين الذاكرة والنسيان، ولا يمكن أن نصل الى النسيان ما لم تكن هناك ذاكرة". والحقيقة، إن النسيان عسير المنال بوجود ذاكرة حية، كما أن السطح التشريحي للرسم ينبعج بمادته وصولاً إلى الجذور. أما الطين فهو رسول الطبيعة البريئة لاستحضار أرواح آلاف العراقيين المغدورين، كما شهدَ على ذلك الفنانُ نفسه.