يُفضي التعاطي مع لعبة السرد الى توسيع مساحة قراءة التاريخ، والى مغامرة التعرّف على المخفي منه، وعلى الوظائف التي تنسحب من التاريخ الى السرد، والتي تنطوي على موجهات وتحيّزات ذلك السرد، وليس التاريخ، وبما يجعل لعبة السرد مفتوحة، ومثيرة لأسئلة تخص مراجعة التاريخ، ومراجعة الشخصيات التي تحركه، والوثائق التي تحفظه، ومدى قدرتها على التمثيل، وعلى تحويل الرواية الى لعبة مضادة في كتابة التاريخ، وبالشكل الذي يصنع من كتابتها مجالا تبئيرياً، تتحفّز عبره القراءات المتعددة للتاريخ، ولسير الشخصيات، ووظائفها في صياغة مدوناته واخباره واحداثه، وحتى اكاذيبه واوهامه.
حفلت رواية "الديوان الاسبرطي" للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي والصادرة عن دار ميم للنشر/ الجزائر/ 2019 بكثير من تلك المفارقات، والتضادات التي تُعني بفحص مرحلة مهمة من التاريخ الجزائري عبر السرد، وعبر شخصيات تتقاطع في وجهات نظرها، رغم أن تعيش زمنا "تاريخيا" محددا ب " 1815- 1833" وهو زمن اشكالي في صراعاته وتحولاته، لكنها تتفارق في سياق توظيفها للزمان النفسي والأيديولوجي، بوصفهما زمانين يخصان تشكّلات مستويات الزمن السردي الذي اقترحه الروائي..
الدخول في هذا الزمن ليس بعيدا عن فاعلية الأرخنة، وتوظيف ما هو انثربولوجي، ونفسي وايديولوجي و" استعماري" في صياغتها، وفي مقاربة ما رافقها من احدث، ارتبطت بزمن التحول من الاستعمار العثماني الى الاستعمار الفرنسي، واعطاء هذا التحول بعدا يستدل من خلاله على المخفي من اسباب تلك المرحلة الاستعمارية، وباتجاهٍ يوظفه الروائي ك "حدث" له تداعياته، ولها تأثيراته على الوقائع الطويلة للاستعمار الفرنسي، بوصفه استعمارا مركبا، قائما على تقويض التاريخ، وعلى اصطناع سرديات طاردة، تفرض شروطها والياتها من خلال السيطرة على الأرض، وتغريب اللغة والهوية..
الرواية ليست بعيدة عن الايديولوجيا، ولا عن ربط تاريخ الاستعمار الفرنسي بكثير من الجرائم " الانثربولوجية" حتى حادثة "المروحة" التي تحولت الى تمفصل زمني دخل في اطار توصيف نزعة "التعالي الفرنسي" مثلما دخل في سياق توصيف رثاثة الداخل الجزائري المضطرب والخاضع للسلطنة العثمانية، فضلا عن ما كشفه "تاريخيا" من مبررات " جيوسياسية" تسببت في دخول الجزائر الى مرحلة الاستعمار الاستيطاني.
السرد ولعبة الأصوات..
اعطى توظيف الروائي لتقانة التمثيل البوليفوني بعدا بنائيا، اسهم في الكشف عن تعدد مستويات النظر الى التاريخ، والذي يتعالق بالحدث الرئيس – الاستعمار الفرنسي- وتأثيراته في صياغة ما هو سردي، وما يخص قراءة ما يتبدى من قطيعة بين السرد والتاريخ، وعلى نحو يجعلهما امام مفارقة، تبرز اشكاليتها من خلال تلك التقانة، ومن خلال ما يتبدى فيها من تناقضات في النظر الى الاحداث، والى ما يسبغه المحتل عبر صوت ممثله السردي/ كافيار من سمات تقوم على فرضية التغريب الوجودي، والعزل الهوياتي..
خمسة اصوات تتبئّر عندها الاحداث، كاشفة عن وجودها ومواقفها المفارقة من خلال نزعتها الفردية، وما يتمخض منها، من صراعات داخلية، ومن علاقات تخص النظر الى الآخر، الاستعماري أو الجزائري، فما ترويه هذه الشخصيات يكشف عن بناها النفسية، وعن المرجعيات الايديولوجية والسياسية التي تقف وراءها، فالسردية الفرنسية المتعالية تأخذنا الى نقائض اتبدو واضحة في مروية "ديبون" الصحفي المثالي الذي يثق بأفكار الثورة الفرنسية، ومن خلال شخصيات الهامش الجزائري – الفتاة الهاربة والجزار- وهم يتحدثون عن نظرتهم البسيطة، لكنها العميقة لمفاهيم الانتماء والهوية والوجود.
"أبو ميار، حمّة السلاوي، دوجة" شخصيات جزائرية، تعيش متاهة علاقتها بالاستعمار الفرنسي، فتكشف عن هواجسها وقلقها، من خلال ما ترويه من حكايات، أو ما تتورط به من مواقف تمنح لعبة السرد زخما يقوم على تمثيل الذات الساردة، في تمثيلها للصراع الداخلي والخارجي، ولإسقاطات الهوية المخفية، التي تقاوم اخفاءها من خلال مرجعيات نفسية وتاريخية ودينية ووطنية، تتبدى عبر مستويات متعددة، تتوزع بين الانتهازية والسقوط الاخلاقي وبين المقاومة التي ترفض الاحتلال، والتمسك بالوجود عبر التعالق بالمكان والهوية واللغة، فتتقوض على وفقها تناقضات السردية الفرنسية/ الاستعمارية، بين مرويات " الصحفي ديبون، والمهندس كافيار" الفرنسيين، فتكشف عبر ترددها وخيبتها وغموضها واكتفائها بالبلاغة عند الاول، وغطرستها وتعاليها وعنفها عند الثاني، ومن منطلق ايهامي له فكرة قدرية تقوم على أن استعمار الأرض هو تحرير التاريخ والذات..
لكن هذا الوهم البشع بفرض هيمنة الاحتلال يتحول الى عملية طرد، ومحو للهوية، وللذاكرة وللتاريخ ذاته، فما قام به الاسطول الفرنسي وهو يدخل الجزائر، كان تكريسا لهيمنة أخرى تخص فرض" السردية" الذي سيصنعها "العقل الامبراطوري، وعلى النحو الذي يجعلها تبدو وكأنها جزء من أفق الحرية، وتواصل مع الحملة " الاستشراقية" لنابليون على مصر، وما حملته من شفرات جعلت البعض يرى فيها مرحلة للزمن الامبراطوري الجديد الذي اعلن نهاية رمزية للسلطنة العثمانية في شمال افريقيا، وبدء مرحلة الاستيطان الجغرافي والثقافي...
عنونة "الديوان الاسبرطي" لها حمولتها السيميائية، على مستوى التوصيف، أو على مستوى علاقتها بفكرة التعدد الصوتي، كآلية لتمثيل الشخصيات وهي تحكي عن مواقفها، وعن وجودها في " ديوان" لعبة السرد، فهي لا تؤشر علاقتها بتاريخ "اسبارطة" كرمزية للقوة الغائبة، بقدر ما تستعير رمزيتها لصياغة بروتوكول سردي يقوم على وظائف تؤديها شخصيات محددة، لها عوالمها، ووجهات نظرها، في التعاطي مع الحدث ومع التاريخ، من خلال اجراءات توزعت بين "السرد الرسائلي" وبين سردنة الصراع الذي تعيشه تلك الشخصيات، بوصفه صراعا وجوديا، أكثر من كونه صراعا تاريخيا، فالاستعمار الفرنسي للجزائر، يصنع تاريخا مُلفّقا، وأن مواقف " كافيار" النفسية والايديولوجية والطبقية تصنع لهذا التاريخ اوهاما تقوم على اغواءات التعويض والاشباع النفسي المرضي، من خلال قتل الآخر، واصطناع تاريخ له، ومن خلال خلط ما تستبطنه ذاكرة مهزومة، باوهام البحث عن "بطولة غائبة" وهو ما يقوده للخلط بين "العثمانيين" والجزائريين" وليجد في العنف والكراهية ازاءهم تصفية حساب شخصي اولا، لأنه عاش الهزيمة مع جيش نابليون في "واترلو" كما أنه تعرّض للتعذيب خلال اسره من قبل العثمانيين، وأن كراهيته للجزائريين تنطلق من عقده الشخصية، ومن موقفهم ازاء ضعفهم ثانيا.
كما أن شخصيات مثل " أبو ميار" و" حمّة السلاوي" يتبادلان المواقف المتقاطعة من خلال انتهازية الأول وعنف الثاني، وهي مواقف تكشف عن التقاطع ازاء موضوع الاحتلال، عبر التماهي معه والعمل في مؤسساته، وبين توظيف العنف رفضا له، ولاصطناع قوة موجّهة للوعي الثوري الرافض، كما أن تحول "دوجة" الى مومس يكشف عن رفضها، وعن احتجاجها الداخلي، بعد أن قُتل ابيها البستاني من قبل "كافيار" الفرنسي، لتجد في عملها داخل "المبغى" عملا استفزازيا لذاتها المقموعة، لكنه سيفضح الكثيرين، وعلى نحو يجعل من هذا المبغى يكتسب بعدا رمزيا، على مستوى الدال السيميائي للمكان، وعلى مستوى تمثله للشخصيات الضائعة والمخذولة التي تبحث عن وجودها داخل متاهته..
كما أن بحث "دوجة" عن التعويض النفسي، والتطهير يأخذ في علاقتها بالثوري السلاوي بعدا له دلالته، من خلال ايهامات الحب التائه، والرومانسية الثورية، فتجد في لعبة العرائس مع السلاوي نوعا من التفريغ العاطفي، وتعرية فاضحة للواقع، إذ يعجز العشاق من أن يحققوا ذواتهم واحلامهم واشباعاتهم في الزمن النفسي والوجودي للاحتلال، ليس لأنهم ضحاياه فقط، بل لأنه يصنع لهم وجودا وتاريخا زائفين، وواقعا مشوها، يمثله المبغى بإحالاته الرمزية والاخلاقية..
الاحتلال وسردية المثقف..
تحتاج شخصية "ديبون" الى وقفة خاصة، لفحص المرجعية الثقافية للعقل الفرنسي المثالي، ومواقفه إزاء الاحتلال، فهو رافق الحملة الفرنسية على الجزائر تحت وهم تحريرهم من العثمانيين، فيحمل معه شعارات الثورة الفرنسية الحرية والمساواة، وبقدر ارتبط هذا العقل بهذه الشعارات والمرجعيات الحقوقية، فإنه وجد في الاحتلال استخداما للقوة المفرطة، والى نظام للسيطرة الهيمنة، وهو ما تجسد في شخصية "كافيار" الذي يمثل القناع العسكري العنفي والايديولجي للعقل الفرنسي، في الوقت الذي يمثل فيه "ديبون" القناع النفسي الحالم، الذي تتقاطعه افكار غير مستقرة، بين التماهي مع الاحتلال، وبين طبيعة خطابه الثقافي والثوري الذي يؤمن به حول الحق والحرية واللاعنف..
شخصية ديبون تلتقي مع شخصية بن ميار الجزائري، ليقدما أنموذجين لتمثيل فكرة القلق الثقافي، وللصراع الداخلي، على مستوى فشلهما في مواجهة مركزية العنف الاحتلالي، وعلى مستوى عجزهما عن تحويل فكرة "اللاعنف" الى واقع فاعل وضاغط، فلا يجد ديبون في اللغة الا اشباعا لنزعته المثالية، ولاستعارته النفسية في تعويض مشاعر الاحباط، التي يعيشها، والتي طرحها من خلال حواراته الرسائلية مع "كافيار" ومن خلال عرائضه التي يرسلها الى البرلمان الفرنسي..
إن بن ميار شخصية اشكالية في تمثيل الشخصية "المحلية" فهو شخصية حضرية، وقريبة من العثمانيين، لكنه لم يرفض الفرنسيين، إذ يجد بالقوة الفرنسية الجديدة حافزا للانبهار بمظاهر تحضرها، وشغفا للعمل معها، فرفض اتخاذ العنف وسيلة لمواجتها، وهو ما دفعه للعمل في ادارة المدينة تحت سلطتها، من منطلق الرغبة في بناء جسور معها، لكن الروائي لم ينحز الى تكريس هذه النظرة المثالية المحبطة، فجعله يعيش قلقه الداخلي، وحلمه بالخلاص اللاعنفي من خلال تقديم عرائض الاحتجاج والشكوى، مما دفع سلطة الاحتلال الى طرده من منصبه، وصولا الى نفيه خارج المدينة، وهو تأكيد على طبيعة التقاطع الحاد بين الثقافتين، فالغرب باستعماره واحتلاله وهيمنة سردياته يحمل معه عناوين قاسية ومتعالية للتفوق، في الوقت الذي تظل فكرة الشرق مسكونة بنوع من الاستشراق المتعالي ايضا، والذي تستغرقه المثالية والسحرية، والى ما يكرس الثنائية الاستعمارية "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" كما قال الانكليزي كيبلنغ...