في غرفتي الفوضوية، مرآة معلقة على جدارها العتيق، سمعت من والدتي ان والدي علق تلك المرآة قبل أربعين سنة، أي قبل موته بسنوات قليلة، بالتحديد قبل ولادتي بسنة واحدة، قالت بانه صبغ جدار الغرفة وعلق عليه المرآة، كان يهتم بتنظيف اطارها الخشبي، حين ولدتُ، أهملها وأصبح يهتم بي أكثر من المرآة، أتذكر كيف كان يداعبني وأنا طفل صغير، نعم أشعر بانفاسه على رقبتي، وحركة شفتيه على بطني وتعلو كركراتي الطفولية ، لكني اتذكر ايضا في عامي السادس القُبل التي رافقتها الدموع التي انهالت على خدي، خالي، عمي، جدي، جدتي، عمتي الكبرى... وكثير من الأشخاص لم أكن أعرفهم، ولم يسبق لي التعرف على نبرات اصواتهم وهم يهمسون في اذني: يتيم.. فقدت الوجة المبتسم دائما ، لم يبق منه غير المرآة أتخذتها أبا، كانت خير أب، أحدثها، اقف امامها، وجدتها كائنا يشبهني يسكن بين اطار المرآة، تقدمت نحوها، وقفت أمامها، كائن وكأنني لأول مرة أحدثه. كانت ملامحه تشبه ملامحي ، حركاته تشبه حركاتي، انه يقلدني، حركتُ فمي فحرك فمه، حركتُ أنفي ففعل، كسرتُ حاجبي فكسر حاجبه، عجيب... سألت نفسي كيف يحدث هذا!... ثم غيرت من حركاتي، أرفع كفي فيفعل مثلما أفعل، أقبّله فيقبّلني، اقترب منه يقترب أكثر، أتراجع يبتعد، أضحك له يبادلني بضحكة، نشبه بعضنا، أو أشبهه كثيراً، عندما أبكي أمامه، أجد التجاعيد التي تغطي وجهه، ياااااا كيف يشعر بما أشعر! الوقوف أمام المرآة وحيداً دون الشعور بأي قلق، أو انزعاج، أو نفاد الصبر، أمر كان يستحق اهتمامي، كنت أشعر أمامها بالتحسن كلما تعكر مزاجي، وبالهدوء كلما غضبت، وبالعزم والثقة كلما شعرت بفقدان نفسي، فأجدني أسعد إنسان في هذا الكون، شعور بالدهشة، ويتحول الدهشة إلى بهجة متناسياً ما يقال عني في الشارع، وما تفعله والدتي كلما شاهدتني أمام والدي. والدي، أو مرآتي، تعرفني جيداً، وتفعل مثلما أفعل، عندما قلت له (أحبك) ردد معي الكلمة بالنبرة نفسها. عندما خلعت قميصي خلع قميصه، القميص الذي البسه يلبسه، البنطال الذي نزعته نزعه، تعريت، تعرى مثلي، تقابلنا، كنا نشبه بعضنا حتى دُهشت، ووجدت الدهشة على محياه، لمست اطار المرآة الملعونة الذي يحرمني منه، اطار خشبي معمر، حاجز بيني وبينه، وإلا ها أنا أشاهده، وأحببت الشامة التي تزين صدره، كم تشبه الشامة التي تزين صدري.
- يا بني لمَ لا تترك المرآة؟
تسألني والدتي بأمر، لا أرد عليها، ولا يعجبني هذا السؤال الغبي، حتى انني لم أكن أرغب بكتابته هنا، ما هذا السؤال الذي تطرحه والدتي؟
- أتحب والدي؟
سألتها ، ردت بنعم، ثم حاولتْ أن تبكي، لكنني لم أصدق محاولاتها، مسكتها من ذراعها وتوجهنا صوب غرفتي، هناك توقفنا أمام المرآة...
- احكِ معه.
- مع من؟
ردّت والدتي وكأنها صعقت بصدمة كهربائية.
- والدي.
- أين هو؟
سألتني، أشرت بسبابتي إلى المرآة، والدي الذي يشبهني يحدق فيّ ولا يهمه وجودها. عم الصمت بيننا نحن الثلاثة، ضمتني إلى صدرها. والدك في الجنة يا بني. هكذا قالت وعلامات الخوف تزين تضاريس وجهها. والدي كبر معي، أو أنا من كبرت معه، أو كبرنا سوية، كبر أنفه عندما كبر أنفي، خط الشارب وجهه عندما خط وجهي شعيرات قليلة، شاب شعره مع أول شيب وقع في شعري، حتى شعر صدره أصبح مثل شعر صدري، يحبني كثيراً، سنوات لا يفعل شيئاً إلا ما أفعله أنا. البارحة، بينما كنت أحكي مع والدي وأنا أنظف الإطار الخشبي، لصقت جبهتي في جبهته التصاقاً وثيقاً، شممت رائحة والدي، شعرت بدفء أحضانه الجياشة بالعاطفة كالبحر الفسيح، لقد كنت أشبه بسمكة صغيرة اتحرك كيفما أشاء في البحر الأبوي. دخلت والدتي وهي مستاءة، حاولت دفعي بعيداً، ولكن السمكة في داخلي تشبثت بجبين والدها، وكنت أغوص غوصاً أعمق في بحر والدي، ولكنها كما كل مرة، عندما صرختْ في وجهي، تركتُ الإطار الخشبي ووضعت يدي على أذني، كانت كل مرة تمارس هذه الطقوس، تمنعني من محادثة والدي والاقتراب منه، تبعدني عنه بقوة، ففي عالم البحار؛ الأسماك الصغيرة تبلعها الأسماك الكبيرة، اثقلت أمي عليّ بصراخها، ولكن هذه المرة، عندما صرخت لم توبخني فحسب، بل سحبت المرآة بكل قوتها، نزعت الخيط من المسمار المعلق بالحائط، كان ذلك الخيط شاهداً على حواراتي مع والدي، بلمح البصر، وجدتها تزين بلاط الغرفة بقطع زجاجية، كسرتْ المرآة، لم يعد والدي الآن معلق بخيط تشنقه لسنوات. بدأتْ والدتي تصرخ في وجهي وتلعن يوم ولادتي.
تلاشت صورة والدي على بلاط الغرفة، دفنت رأسي بين فخذي وبكيت كثيراً.
عصراً، بعد أن نظفت والدتي الغرفة من قطع الزجاج، خرجت من المنزل، بحثت، وجدت عشرات القطع من والدي في صندوق القمامة، يده تحولت إلى قطع صغيرة، كفه تحول إلى أربع قطع في أسفل الصندوق، رأسه مقسوم إلى قطعتين، تعبت حتى عثرت على تفاصيله، رجله وبطنه وظهره كلٌ في زاوية، عندما جمعت كل القطع، شعرت بتعب وعرق يزين جبيني، مرَّ رهط من الشباب وهم يضحكون ويقهقهون بعلو أصواتهم قائلين: هااااا مجنون. بعد عقود، كل الناس تقدموا في السن، حتى والدتي، إلا أنا، بقيت طفلا يقاسم عمره مع والده الذي تلاشى في صندوق القمامة.
وجدت نفسي تائهاً، من ذا الذي يعيد لي وجه والدي؟ من الذي يحررني من وحدتي؟ من الذي يضحك لي كلما ضحكت، ويبكي كلما نزلت دمعة من عيني؟ من الذي يشغلني عن ماضٍ ضاع ومستقبل مبهم؟ احتضنت أجزاء والدي، وحاولت جاهداً المحافظة على وجهي المستعار، وبشرتي التي شعرت بتجاعيدها التي نبتت في ساعات، والواقع الذي أسمعه من العالم المليء بالجنون وهم ينعتون شخصاً مثلي بالمجنون.