ضمن سلسلة الكتب الفنية صدر حديثاً عن دارSKIRA العالمية بواقع 330 صفحة من القطع الكبير، كتاب اثير هو نوع من الكتب الفنية الذي انهمك العزاوي بالاخلاص لها، بوصفها مشروعاً ابداعياً وتوثيقياً في الوقت نفسه، يحاول فيه أن يجد المقاربات الجمالية للصورتين الشعرية والبصرية التي تتجلى في المزاوجة والتعالق بين الصورتين. وهو في الوقت ذاته يحاول جاهداً الاقتراب من مضامين القصائد وموضوعاتها العامة التي تلتقي مع جوهر اشتغالاته الرسومية. فالصورة التي يرسمها (العزاوي) بموازاة القصيدة تبحث في تفاصيل اللحظة العراقية ومحايثة كل منها للأُخرى (الصورة العيانية والقصيدة) لانتاج موضوع قديم متجدد برؤية مختلفة في المعالجات التقنية والأسلوبية، فهو يركن الى استجلاب القصائد العربية التي تتواءم في تجسيدها مع اللوحة المرسومة عندما يتحول اللساني واللغوي الى خطاب بصري محاولاً تمتين هذه العلاقة من خلال استثمار فجوات النص الشعري الصالحة للدلالة البصرية في مجموعة النماذج المرفقة أو المتشاكلة في صفحات هذا الكتاب، محاولاً توثيق القصائد واللوحات والاشارة الى مصادرها الأصيلة مع بعض الشروحات عليها.
قبل البدء بموضوع الكتاب يجد مداخل لشرعية هذه العلاقة المقارباتية في مجموعته الرسومية مع نماذج من الشعر العربي والعالمي، فتتركز هذه المقدمات القصيرة عن الفن العراقي يستعرض فيها نماذج بصرية فاعلة في المشهد التشكيلي العراقي، وبعض تلك الرسوم للفنانين (كاظم حيدر، وضياء العزاوي) التي تتجسد فيها الملاحم الانسانية عبر التاريخ العراقي القديم والحديث في ضوء استعراضه لرسومات توثق الاسطورة والليالي البغدادية، كما يصور عملاً للفنان (كاظم حيدر) من ملحمة الشهيد. وبهذا يفدم رؤيته التي تنطلق من الأركيولوجيا التي تمتد الى الجذر الاسطوري العراقي وامكانيته التعامل معه على صعيد تشييد الخطاب البصري المعاصر.
إن العلاقة بين الشعر والرسم قديمة جداً ولا يمكن الفكاك منها أو تحديدها بسقف زمكاني محدد، إذ أن الصورة الشعرية تكمن في العقل والوجدان، بينما تأخذ الصورة المرئية أبعاداً في متابعة الأثر وتسجيل إنطباعنا المستمر عنه، والمتحول أيضاً بفعل طاقة التلقي، إلا أن محاولة جمعمها في لحظة تلقي واحدة هو ما يميز هذه التجربة البصرية، حيث تتحول النصوص الشعرية الى خطاب مرئي لا نجد صعوبة في تلقيه وايجاد وسائل الاقتران بالصورة المرسومة. فمن خلال هذا الكتاب جاء بالقصائد المشهورة في الشعر العربي (الفصيحة والشعبية) لتسجل مقارباتها مع اللوحة المرسومة لكبار الأسماء الشعرية ( أدونيس، محمود درويش، مظفر النواب، أبو القاسم الشابي، المتنبي، فاضل العزاوي، يوسف الصائغ، بدر شاكر السياب، أمل دنقل، خليل حاوي، رشدي العامل، لميعة عباس عمارة، سعدي يوسف،سركون بولص، شيركو بيكه س) وغيرهم، مع ذهابه الى شعراء معاصرين في ضوء الغاء السمات العمرية والاحتكام الى صنف القصيدة وعلاقتها بما يرنو اليه، إذ أن اسماء مثل (عبدالزهرة زكي، ريم قيس كبة) وغيرها لا تقترن جيلياً بما أورده من أسماء شعرية شغلت موقعها الحقيقي على خارطة الشعر العربي، فضلاً عن بعض القصائد الانكليزية.
كما إنه يوثق في الفصل الثاني مآسي الوطن الكبرى إزاء المتغيرات التي حملتها اللحظات، فيرسم ما أسماه يوميات الحرب أو (دفتر السواد) وهو يؤسس لتجربة بصرية تتواءم مع أحداث 1991 ، ومن ثم يأتي على توثيق المتغير الأكبر الذي عصف بالحياة الاجتماعية والثقافية العراقية الذي بدأ من عام 2003 ، ثم أردفه بفصل كتاب العار (تدمير المتحف العراقي) ولكي تكتمل الصورة النهائية للحدث يتحدث بصرياً عن (سفر الاشارة) بعدها تتسع الاشارة الى السواد الذي يتعدى البنية الزمكانية المتعينة الى اللحظة العراقية المُطلقة بما ينعته ب (دفتر السواد العراقي) فيرتد الى تجارب سابقة ليرسم صور الأشخاص الذين مكثوا في ذاكرته من المحببين لديه الذين نالوا من هذا السواد. فتظهر رسومات بالأسود والأبيض لشخصيات ثقافية عراقية تتضح منها صورة الشاعر (رشدي العامل) موشحة باللون الأحمر (دلالة الدم) إزاء همجية الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم الوطن. ثم يرسم يوميات المكوث، ويجد إن من الواجب في نهاية الكتاب أن يوجه تحياته الى الكبار الذين أرسوا انموذجاً بصرياً أسهم بشكل كبير في صياغة (هوية فن عراقي) كان أولها (تحية الى جواد) محاولاً محاكاة رسوماته أو أعماله التي نالت شهرة واسعة، لكنها بريشة العزاوي ورؤيته لمحاكاة هذا الموضوع، إذ كان الاحتفاء باللون النقي البراق، ثم يشير الى (اختلافات الممكن..مع اسماعيل فتاح ) وهو يُعيد انتاج صورته بشكل مُختلف من حيث المفارقة الجمالية والفنية في لوحاته.
وفي نهاية هذا المبحث يضع بعض من صور لوحات الترك أواخر حياته باعتماده على الأقتعة والموضوعات التي تلامس حياتنا اليومية المباشرة والتعبير عنها ببساطة، فيصطف معه في هذه الرحلة الملونة. ثم يلجأ الى رسم ما يدعوه (تنويعات) من خلال تمظهر فكرة القدرية في استمرار الحياة أو العيش، فيلون هذه المحاولات من خلال مجموعة رسومات يتسم بها خطابه البصري، ثم ينتهي الى مجوعة دفاتر مفتوحة ومغلقة يسميها (دفتر أفكار) يحاول من خلالها بث أفكاره اللاحقة التي يُمكن أن تتصير على هيئة أعمال فنية ملحقة بتجربته البصرية. وأخيراً يستطيع توثيق كل تلك المقاربات التي تم عرضها في المتن الى صور مُصغرة مع الاشارة الى القصائد الشعرية المرافقة وأسماء الشعراء حين تتعالق الصورة المرسومة مع القصيدة، ينتهي بعدها بملحق الهوامش الذي يدون فيه كل ما ورد في الكتاب من خلال رصد دقيق وقصدي لاختيار الشاعر والقصيدة بما يتناغم مع رؤاه الفكرية وتطلعاته وفرضيات الخطاب البصري الذي يُشكل بؤرة مركزية لهذا التناول.