الاستبدادُ قديمٌ في هذه الأمّةِ، وقديم في غيرها أيضًا؛ صحِبها في تاريخِها كلّه ؛ فكان سمةَ السلطةِ فيها؛ إذ كانت تقوم على الغَلَبة؛ يُحرزها المتغلّبُ بعُصْبته وسيفه؛ فإذا تمّت له لم يُخرجْها من يده إلّا متغلّبٌ آخر أقوى منه! وليس للرضا موضعٌ في قيامها. ولقد استقرّ، عند الحاكم والمحكوم، أنّ السلطةَ العليا إنّما تُنال بالسيف القائم ، والسطوةِ القاهرة، وليس للناس إلّا أن تسلّمَ أمرَها لصاحب السلطان الغالب، وأن تُطيع! وقد صحبت ذلك أنماطٌ من التسويغ ؛ بالشعر وبالنثر؛ يقوم بها رجال من الحاشية. ثمّ جرى الأمر في هذا العصر على ما كان يجري عليه، من قبلُ، وإن اختلفت أداةُ القهر والغلَبة، وتباين القول في التسويغ والتمكين؛ حتّى صار الأمر من الثبات بمكان. وكان أن نشأت عنه أخلاقٌ وسماتٌ فشت بين الناس، وانغرست في أذهانهم، وظهرت في أفعالهم؛ ثمّ أمستِ المهادَ الذي يقوم عليه كلُّ استبداد جديد ! وهي ، على كثرتها ، مشتبكة متآزرة بعضُها ينِصر بعضًا ويُمكّن له.
ولعلّ أوّل ما يُشيعه المستبدُّ وأعوانهُ، في الناس، هو الخوف؛ إذ ينشرونه بنحوٍ صريحٍ جهير، وبنحوٍ غامض خفيّ؛ من أجل أن يتغلغلَ في النفوس، ويتمكّنَ منها فيُوهي الفكر، ويثلّ العزم. وكلّما زاد الخوفُ انحسر العقلُ وتضاءل مداه، وانخذلت قُواه، وجعلت الأوهامُ تتسلّط عليه؛ وعندئذٍ يُسلمُ الإنسانُ مقادتَه لصاحبِ السلطان المستبدّ، ولأشياء خفيّةٍ، ينشرها السلطان، لا يستطيعُ أن يُدركها تمامَ الإدراك ؛ فيكونَ عونًا له على نفسه، ويُطيعَ الطاعةَ المذلّة. وإذا تمكّن الخوفُ من الأنفس، وتقلّصَ العقل؛ تجنّبَ الناسُ الكلامَ، وجنحوا إلى الصمت يلوذون به؛ محترسين من ألسنتهم، وما قدّ تؤدّي إليه من مخاطر، خائفين وجِلين. وكلُّ ذلك، إذا طال، يُفضي إلى خوَرِ النفس، وتبلّد الذهن، وفهاهة اللسان؛ ويُفضي إلى نشوء كلام منفصل عن الوقائع، زائفٍ، يسعى في مرضاة المستبدّ، وتسويغ أفعاله؛ فتغدو اللغةُ كيانًا مفارقًا، لا يصوّر وقائعَ الحياة، ولا يدلُّ على ما يشقَى به الناس. وإذ تفسد اللغةُ يفسدُ الفكر كلُّه، ويغيبُ وعيُ الحقّ، وتختلّ القيم؛ وباختلال القيم ينزوي أهلُ الصدق والإخلاص، ويتقدّم أهلُ الكذب والمراءاة. إن السلطانَ المستبدّ، في كلِّ أحواله، عدوُ الإنسانِ في كرامته، ويقَظةِ ضميره، واستقامة وعيه؛ إنّه يريده خلوًا من ذلك كلّه حتّى ينقاد له بدون أن يسأل، أو يُعارض!
إنّ المستبدّ، بطغيانه، يُفسد الحياةَ كلّها، ويُشفي بها على التهلكة! وذلك صنعُه في كلّ حقبةٍ يظهر فيها! ثمّ تظلّ آثاره، من بعده، تُفسد النسيج الاجتماعيّ جيلًا بعد جيل.
أمّا النجاة من الاستبداد وآثاره؛ فإنّما تكون، أوّل ما تكون، بتنشئةٍ جديدة تقوم على إيقاظ العقل من سُباته ، واسترداده من غيابه، وعلى رعاية الضمير وحياطته حتّى يكون مرشدًا يَهدي إلى طريق الصواب.
وذلك إنّما يكون بالفكر الفلسفيّ، وبآثار الأدب الرفيع والفنّ السامي! نعم! لا يردّ الاستبداد، ويمحو آثاره إلّا فكرٌ فلسفيّ يقوم على العقل والمنطق، ووضوحِ الرؤية، يُعلي من كرامةِ الإنسان، ويردّ إليه الثقة بنفسه، وبقدرته على الفهم، ومعرفة ما ينفعه وما يضرّه. وأدبٌ رفيع تمرّس بتجارب الحياة الخالدة، وفنٌّ يرقى بالروح ...!