أمست تلك الذكريات تزورني ليلاً و أنا أطرح رأسي على وسادتي. فأمضي مستدرجاً أيام كنت ألتقي (رُقيَّة)، و انا القي في طريقها ، ممازحاتي العابثة دون اكتراث.
قبل زواجها لا تبدو، سوى طفلة هزيلة ، أرهقها العوز. اعتدت أن أمازحها فأقول لها و أنا ماض في طريقي :
ـ أتوافقين أن أخطبك ؟
فتغادرني مهرولة و هي تزمُّ شفتها السفلى.
بعد أن تزوجت .. اعتدت أن التقيها ، و قد تغيرت ملامحها تماما . و بدت تتسم بالرشاقة و الجمال الأخّاذ . فأحييها باحترام و أمضي في طريقي . هذا كل ما يخطر ببالي . لا يوجد أي أمر آخر .
*
تطلّب أمري الوظيفي أن أنتقل نهائياً و معي عائلتي إلى مدينة أخرى. فتَخَطَّتْ عبرها الأعوام ،أربعين و نيف. و تراكم غبار الزمن على الكثير من الذكريات. و لم يعد ذلك الصفاء متوفراً في بالي، فقد أُثقلت رأسي العديد من الأمور اللاحقة .
بعد كل هذه السنين ، فوجئتُ بعدة مكالمات، من أقاربي ، تكررت كثيراً تقول : إن (رقية) تسأل عني و ترجوني أن أصلها كي تشاهدني . و عجبت من ذلك.. كيف بقيت هذه المرأة تحتفظ بذكراي بعد أفول كل هذه الأعوام ؟ و ما هو الدافع الذي دعاها لهذا الإلحاح كي تلتقيني ؟
أَعَدْتُ ذكريات تلك الأيام. و بدأتُ أستدرج أحداثها و أرَتِّب مفرداتها التي لم يكن فيها ما يثير الاهتمام ، و أنا أتساءل:
- أي شيء استدعاها أن تلح بطلبي؟!
و عند سفري إلى مدينتي السابقة ، بعذرِ تَفَقِّد أقاربي ـ وفي الحق هي: استجابة لرجائها ـ فاستأذنت الدخول إلى دارها، و لاقيت الترحاب بعد غيابي الطويل، فعائلتها من معارفي.
ظلت عيناي تصبوان لملاذات البيت علّها تطل. لكن الوقت ظل يمضي دون جدوى، بسبب غيابها عن الدار. و سرعان ما عدتُ ، من حيث أتيت.
و افترضت ان عائلتها ستخبرها بمجيئ. و لم أشغل بالي من بعد، بهذا الموضوع.
بقيت وصاياها لم تنقطع. واستمرت المكالمات تأتيني من معارفي بإلحاح. و لم يكن لديّ الوقت أن أقطع هذه المسافة الطويلة . لكن الأمر شغل بالي بقوة. و داعب قلبي شعورٌ بالشوق و تحتّم عليَّ ان استجيب . لكني اعتدت أن أكون متمهلاً لطول الطريق. فأرجأت ذهابي إلى فرصة مناسبة .
* * *
استلمت مكالمة ملحة جدا من معارفي. تقول: إنها بحالة خطرة و ترقد في المشفى. فشغلني ذلك كثيرا. و شكل في قلبي ندماً قاسياً . وأسرعت على الفور إلى المدينة التي ترقد فيها، إذ تبعد بحدود المئة و الخمسين كيلومتر.
وصلت على عجل . وجدتُ عائلتها تمكث في ممرات المشفى يكلكل عليهم الوجوم. و بعد السلام التقتني أختها باكية و جَرّتني جانباً، و هي تقول:
- إنها تسأل عنك و تقول: ألم يأتِ ؟
في غرفة الانعاش، صعقتُ بحالتها وهي تبدو على شفى الهلاك. تستلقي على سريرها بذلك البهاء . لا يبدو أن حالتها الخطيرة قد أمضت بسلاحها كي تعبث بجلال مُحيّاها .
اقتربت اختها منحنية فوقها قائلة بصوت رقيق مسموع ، كأنها تريد أن تنتزعها مما هي فيه:
- هذا هو ابراهيم قد جاء. افتحي عينيك و أريحي قلبه ؟
التفتت اختها نحوي و قالت :
ـ اقترب منها و دعها تسمع صوتك.
اقتربت منها. ركعت على ركبتيّ ، من الجهة اليسرى، و مالَ حنكي بثقله على حافة سريرها، و كأن رأسي ينوء بثقل ما لم أألفه من ندم:
ـ رُقَيَّة.. هذا انا ابراهيم. أَلستك راغبة أن تشاهديني ؟
لم تفتح عينيها بل شاهدت دموعها تنحدر ببطء .
كنت أنظر للعداد الذي يَعِدُّ ضربات القلب، كأني أرجوه ألاّ يعلن نهايتها . لكنه أبى إلاّ أن يمضي بأنينه الموجع ، و بدا كما لو أنه ينتكس ، ثم يستيقظ من جديد ، كي يئن متعثراً .
بدا أنينه ثقيلاً قاسياً ، أسرعت للطبيب بمفردي، مستنجداً. لم يقل شيئاً ، بل جاء معي بخطواته الثقيلة. كنت أراها ثقيلة جداً. وعندما وقفت بمحاذاة السرير تعلق نظري منشداً إلى فم الطبيب كما لو ان حياتها رهينةً بين شفتيه .
مكث قليلاً بصمت.. ثم رفع الجهاز ليعلن توقف قلبها.