كريم جخيور شاعر محتدم بالشاعرية (poetics)، حتى انه قد لا يجيد في حياته شيئا يقارب اجادته الشعرَ؛ فأي حديث يطلقه كريم جخيور تجده قابلا للتحول الى شعر، تماما مثل اغاني الحمامة ذات الطوق التي مهما تنوعتْ حسَب الناسُ غناءها نواحا.
كتبت فيما مضى ورقة عن التجربة الشعرية لكريم جخيور عنونتها (كريم جخيور.. غزل بمقام الرثاء.. ورثاء بمقام الغزل.. وشعر (مزعج)!!) وكنت قد استعرت مفهوم (الشعر المزعج) من الشاعر وليم بليك، وكان يقصد به ذلك النمط من الشعر الذي يطيح بقناعتنا الراسخة، وهو ذات الشعر الذي ينتجه كريم جخيور عبر ألعابه الشعرية، واشتغالاتة الفنية، وقد عدت الى الفكرة مؤخرا فوجدت ان الإطاحة بالقناعات لا يخص قناعتي شخصيا، بل يتعدى الى نمطين من المتلقين: اولهما، أولئك الذين يتذوقون نمطا من الشعر كان (القالب العمودي)، حتى وان كان فارغا من الدلالة، جوهره، كما يطيح، في الوقت ذاته، بذائقة النمط الثاني المناقض للأول، واعني ذائقة من يفضلون الشعر المكتظ بالإحالات المعرفية والثقافية، كشعر اليوت مثلا، فإذا بهم يجدون انفسهم أمام بساطة لا تدانى في شعره، بل هي بساطة من نوع مختلف؛ فيضطرون، سواء كانوا من ذوي الذائقة الميكانيكية للشعر العمودي، او من أولئك الذين يشترطون على الشعر امتلاءه بالإحالات المعرفية والثقافية، وامام تفرده، وتمرده على كلا الاتجاهين؛ وأمام تحجر ذائقتهم، يضطرون الى الحكم عليه بأنه نمط من الشعر (المزعج)!، لأنه حقا مزعج لكلا القناعتين معا.
لقد اتقن جخيور صنعة الشعر الكلاسيكية: الغزل والرثاء معا، وباتا يخلقان علائق خاصة حينما يتبادلان التنافذ كضفيرة مجدولة، فتارة يتغزل بامرأة، في قصيدة، وفي قصيدة تالية، يرثي امرأة اخرى، بل قد يجمع الشتيتين في نص واحد احيانا، فينجح في الموازنة بينهما.
ولم تكن بساطة لغته عائقا له من الكتابة في موضوعات (خطيرة) لأنها عصية على التناول الشعري، فمن الصعب على الشعر ان يستوعب الكثير من الموضوعات ذات الطبيعة السياسية، وذات الطبيعة الأيديولوجية التي فيها فصل حاد بين الاسود والأبيض، يقول:
كلما زمجرت دبابة
يتكاثر موتنا
يتكاثر جوعنا
ويضيق الفضاء
ان شعرية نص جخيور قائمة على جناحين متضافرين هما اهم ما وصف به وليم بليك الخط القوي في الرسم التخطيطي، حيث يجب ان يجمع: القوة والبساطة، القوة متمثلة بالشعرية الملموسة، والبساطة متمثلة بالوضوح والاهتمام بالهموم الحياتية اليومية التي يراها الكثيرون موضوعات يختص بها النثر، كما انه وان امتثل لما اسميه قانون باشلار للمادة، والذي اعتقده ينطبق على قصيدة النثر، التي تمتلك طبيعة مزدوجة ومتناقضة تماثل المادة التي يصفها باشلار بأنها: "تنقاد باتجاهين: اتجاه التعميق، واتجاه الانطلاق. فباتجاه التعميق تبدو غير قابلة للسبر كمثل لغز، وتبدو، باتجاه الانطلاق، قَوَّةً ومعجزة لا تُستنفدان، وبالاتجاهين كليهما يُنمي التأمل خيالاً مفتوحاً"، ولكنه يتجه بقصيدة النثر نحو البساطة والتعميق بغية استخلاص زبد الجمال الطافي على سواحل الكتابة التي تبدو شاسعة كما تبدو يومية وقريبة ومحببة الى النفس والى القلب.