- (ينبغي تسطير الأيام بسنّ القلم، حتى نتذكّر على الأقلّ إنّنا عشناها) - شارل فردينان راموز ١٨٧٨- ١٩٤٧
- (مهما اتّسمت اليوميات بعدم استقرار شكلها، فهي فعلاً جنس ادبيّ، نتبيّن من خلاله كيفيّات اشتغال آليات الكتابة) - بياتريس ديدياي، ناقدة فرنسية، وأستاذة بدار المعلمين العليا بفرنسا.
يعرّف كتابُ (اليوميات الخاصة)- من تأليف الأكاديميّة الفرنسية الرائدة في مجال كتابات الذات بياتريس ديدياي- نوعَ اليوميات Journal بأنها شكل قاعديّ لكل أنواع السيَر الذاتية والمذكرات والاعترافات، وأن اختلافها عن هذه الأنواع هو في فورية التدوين اليومي (يوماً بيوم intime ) إضافة إلى اتصافها بالتشظي والانفراط والانقطاع الذاكراتي، وتصريحها بحالات داخلية مقصاة، كيوميات السجن والمرض والجنون والإدمان والسفر. كذلك فقد تعرض اليوميات تجارب حياتية كاملة، أو توصيفات مرحلة تاريخية كاملة، بعد صبها في نسق يومي. وبدرجة أرقى، قد تدخل اليوميات الفلسفية في دائرة التأملات "الدورية" الأخلاقية والروحية، مثل يوميات كيركغارد ومارسال وباسكال وبرنانوس. ولا تستثنى من هذا النوع يوميات الفنانين والأطباء النفسانيين. وفي النوع الأدبي من اليوميات، تشير المؤلفة إلى أن دوستويفسكي كان قد سجل في "كنانيشه" يوميات خاصة بروايته "الأبله"، بينما تجلت في روايات ستاندال صراحة ووضوحاً. وفي محاولتها تجنيس اليوميات أدبياً، تتردد ديدياي في اعتبارها أعمالاً تامة، وتبتكر لها مصطلحات بدئية مثل "جنس- عنقاء" أو "عالم ما قبل فرويديّ" أو "مرآة نرسيس" أو "تمارين ضمير" أو "ملجأ رحميً- أمومي" أو "طور طفولي- ما قبل كلامي، ما قبل كتابي" أو "هوس مدرسي- بيداغوجي" باختلاف منظوراتها التاريخية والاجتماعية والنفسية. لكنها مع تعدد التسميات والأشكال، فقد تغدو كتابة اليوميات فريضة يومية وتوسيم شخصاني، يبدو الفرد من دونها تائها في مجتمعات التسليع الرأسمالية وضغوطها الخارجية. وقد تؤلّف "الظاهرة اليوماتية" diarisme لدى النساء حصناً يعبّرنَ من داخله عن قطيعتهن الاجتماعية، لكن مؤلفة الكتاب تلاحظ اقتصار كتابتها على أفراد من رجال الطبقة البرجوازية الأوربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو على أفراد ليبراليين، معارضين للنظام الاجتماعي، وأحياناً قد تعكس حياة عائلية غير متآلفة (تولستوي وزوجته وابنته). بينما تؤشر المترجمة في هامش المقدمة إلى أن أقدم نصوص اليوميات في التدوينات العربية- ومصطلحها الشائع (الروزنامجة)- قد تتمثل في يوميات الصاحب بن عباد المتضمنة قصصاً ونوادر أدبية ومناظرات اجتمعت لديه في بغداد حين زارها بصحبة الأمير البويهي عام ٣٤٧ هجرية وأرسل قسماً منها إلى أستاذه ابن العميد وزير ابن بويه. (صدر الكتاب عن معهد الترجمة في تونس، بترجمة الباحثة التونسية جليلة الطريطر، ٢٠٢١).
وبهذا الاعتبارات، فقد تكون كتابة اليوميات والمداومة عليها "الحياة الوحيدة" للكاتب- قبل شهرتها- كيوميات المركيز دي ساد في سجنه، أو يوميات رحلات ماركو بولو وفلوبير ونيرفال إلى بلدان الشرق (وتعتبر على جهتنا اهتمامات متأخرة كيوميات عبد الله العروي وعبد السلام بنعبد العالي وعبد الفتاح كليطو) لكنها أيضاً- على وجه العموم- لا تعتبر أكثر من خطاب ثانوي، يُنتَج في الخفاء، ولا يوضَع موضع النشر والتداول، لِما فيه من التصاق "حميم" بنوازع الذات، وافتراقها عن أي بوح ذاتي صريح ووعظي، كيوميات القديسين والأولياء والمتصوفين. إنها سلسلة مؤرخة لحالات "الضمير" الخاطئ، أو اعترافات النفس المعذبة بهواجس شطرها الجنوني المظلم. أما في حال نشر هذه اليوميات- المنطوية على ذاتها- فقد يكمن في ازدواج الرغبة بالستر والافتضاح، وتمرد "الأنا" المنظور على وعيه الرقابي الناظر، في مرحلة من مراحل الشيخوخة- السادو- مازوشية.
ومن الواضح أن اليوميات بتلك الحدود، تشمل محاولات كثير من الكتاب والكاتبات- غير المحترفين- من مختلف الأعمار، أولئك الذين لم يحظوا بقسط وافر من الاعتراف الأخلاقي والإجتماعي. أو إنها في أحوال أخرى كتابات يُعثر عليها في طيات فراش سجين، ترك مخلفاته وراءه لحراس السجن، أو في دُرج طاولة مريض انتهى أجله ونُقِل إلى ثلاجة الموتى في مستشفى، أو في حقيبة امرأة نسيتها في حافلة أو قطار (واليوميات الأخيرة من أكثر الأمثلة الشائعة في قصص الحب، لتضمنها على رسائل ويوميات حميمة) فتدل بأجمعها على مناسبات غير متوقعة لعزلة الذات الخائبة والحزينة. وخلافها فقد نعثر على مخطوط رواية في صندوق بريد مقفل، لم يتسنّ لصاحبه المجهول إتمامه، فلا يتعدى المخطوط مقدمة مفهرَسة بحوادث مستقبلية، في عالم خيالي سيأتي بعد ألف عام.
وفي كل أنواع اليوميات تلك، ستتجاوز كتابات الذات قريناتها الحقيقية (كاعترافات جان جاك روسو)، وصياغاتها الكبرى المعترف بها أدبياً (مثل رواية ستاندال: حياة هنري برولار، ورواية بروست: البحث عن الزمن الضائع، ورواية أندريه جيد: مزيفو النقود) وترتمي في صحراء النفس الواسعة الضائعة، بلا حدود. والشرط الرئيس في اليوميات، تقلّص الزمن بين الحادث وكتابته، فإذا قُرِئت أو نُشرت في زمن بَعدي، أو في مكان آخر، فلا قيمة لبوحها وحميميتها، إلا كونها شكلاً لسيرة ذاتية. والأساس في كتابتها قد نجده في عبارة ديدياي، التي تحدد ماهية اليوميات وتعبيرها عن زمنها الخاص والعام، وضرورتها لكل كاتب، واجه نفسه وفضحَها للآخرين: "ليس الأهم ما عاشه المرء من زمن، ولكن كم من الوقت أمضاه مع ذاته وفي ذاته". أو اختصاراً: "الوعي بالأنا". أي إدراك المسافة الداخلية للأنا، وتحقيق "انزياح" لها وفيها. وبقدر ما تبدو اليوميات "مرآة" للنفس، فإنها أيضاً تعكس الوجه الآخر منها، فتصبح تسريباً للتحليل النفساني الذاتي. إلا أن الوظيفة النفسانية لليوميات اختلفت في القرن العشرين عن مثيلتها في القرنين السابقين، حيث انصبّ التركيز في كتابتها على "الأثر" أكثر من "الإنسان"، فاعتُبرت لذلك جنساً خاصاً بين بقية الأجناس الذاتية المجاورة، ورأس مال كتابياً ينمّي ثروة "الضمير" الروحية في مجتمع المنفعة والاستبدال المادي.
وفي يومنا هذا، تكتسب كتابة اليوميات تمرساً ذاتياً متنامياً، إذ تمتزج لدى فئة كبيرة من الكُتاب بعادة التدوين اليومي على الحاسوب أو الهاتف النقال، وتختلط بشواغل يومية مختلفة تدفع بها مجتمعات الحداثة التجارية والصناعية إلى واجهة الضمير: تخطيط سريع لموضوعات أدبية؛ وأدنى من ذلك: تذكير بأعمال مؤجلة وأشغال طارئة؛ وأسفل منها: قوائم مشتريات، تواريخ وأرقام هواتف وعنوان بريد، هذيانات وتداعيات لفظية لا معنى لها. ومهما بلغت المدونات الرقمية تلك من تفكك وفجاجة، فإن عمليات نقلها إلى ملف مكتوب بعناية ووضوح، أو إعادة كتابتها في مفكرة يومية بصيغ أدبية وجمالية، ستؤدي في النهاية إلى الحصول على نص معيش، يحتفظ بخاصيته اليومية، وتشظيه الدلالي، قبل تحويره أو تحريره النهائي، في صورة مذكرات أو تخييل روائي.
إن المشهد الأخير، لعشرات المنشغلين بهواتفهم وحواسيبهم، هو أكثر المشاهد الدالة في عالم اليوم على كتابة الذات المبعثرة على أماكن كتابتها: حافلة أجرة، ركن في مقهى، دكّة محتجَبة في حديقة، محطة قطار... التي تهيىء لقبول مفهوم الكتابة العاجلة في أدنى مستوياتها الأدبية. ولا أبعد من أن تنتظم نصوص المستقبل في خطابات متداخلة مع إيقاع اليوميات غير النظامي، ونسقها المسترسل في دفقات متقطعة، وكميات متفاوتة المعنى والاتصال الحقيقي بالحياة والعالم- توترات الذات المندغمة بفضائها الصِّفري- صِفر الكتابة.
وحتى يحين وقت الاعتراف بأحقية اليوميات في البقاء على هامش كتابة الذات العالية- المذكرات والسيرة والرحلات والرسائل والحوارات وما شابهها من نصوص مفتوحة- فقد يضيف الكُتاب والكاتبات آثاراً جديدة، متكررة من مختبرات كتابتهم الاعتيادية. واتصالاً بكل ذلك، لا أجد كتابتي اليومية مستثناة من هذه النزعات الذاتية، أُفرِغُ في أشكالها شظايا من حافظة هاتفي النقال، يوماً بعد يوم. والحال، فإني درجتُ على هذه العادة الكتابية منذ العام ٢٠٠٥، وكنت من قبل أدوّن يومياتي في دفاتر غير مؤرخة، قبل انتشار المفكرات اليومية التجارية، واعتمادها مدونات انتقالية، وحافظات نهائية ليوميات على قدر من السبك الأدبي والجمالي. وكثيراً ما أرجع لهذه المفكرات لانتزاع الأصول السردية من تسلسلها اليومي المتقطع والمقصي وراء حجاب النفس، وأعيدها إلى نسقها السردي الاعتيادي- جنسها القاعدي- الذي شردت منه. وبالنظر إلى حساسية تلك الشوارد من اليوميات- شوارد المرض والضجر والاحباط/ أو نوازع الجنس والرسم والتجوال- فقد أؤجل دوماً إظهار تلك الآثار اليومية للعيان، ما لم تنتظم في مخططات أدبية كاملة الأركان، أو "سكيتشات" قابلة للتطوير؛ ومن غير هذا التطوير فإن الأشكال النسقية الأولى لليوميات تأبى إلا أن تتشبه بتعبيرات "الانبثاق من القاع" حسب تسمية الكاتبة أناييس نن لأنواع من كتاباتها.
ظلت نوازعي اليومية حبيسة المفكرات التسع عشرة (أهديتُ منها اثنتين لمتحف الأدباء في بغداد) أرجع إليها لتبوبيبها في مخططات وفهارس طويلة الأمد- معترفاً بهوسي الحميم غير المبرر. وعلى سبيل المثال أبيح هذه "اليومية" من تبويبات الصفحة الأولى من مفكرة العام ، تحت عنوان_ يوميات مفترضة:
"حلم من العام السابق: الزوجات الجميلات، ثيابهن الزاهية، وعلى الجانب الآخر تتجمع القمامة في الشوارع الخلفية.
قطار 1979: بريد حزبيّ، محطات متشابهة.
بستان 1955: ظهيرة حارة، حُفر قبور دارسة.
مهد 1942: تنويمات.
دفتر يوميات قديم: حطام كأس، السوق في عيد الأضحى".
أما على الصفحة الأخيرة من مفكرة السنة تلك، فقد دوّنتُ حلم آخر العام تحت عنوان (نملة المقبرة) وهو الحلم الذي سيأخذ تسلسله في كتاب (أحلام باصورا). ومن الواضح لي اليوم، أن كتاب (الأحلام) الصادر عن دار الجمل في العام ٢٠١٦، كان قد تجمعت أجزاؤه من أوقات الكتابة غير المنتظمة لأضغاث النوم وأحلام اليقظة وأرجاع الذاكرة. وكانت قيمته الأولى تتجلى في تشكله من تدوينات يومية.
وعموماً، لماذا يمسك الكُتاب دفتر يوميات؟ الخوف من المواجهة، الفشل العاطفي، الوصول إلى مفترق طريق، العجز عن اتخاذ قرار، تفادي الانتحار، التردد في إنجاز أثر أدبي كامل؟ والسبب الأخير، مؤكد في تحليل "ديدياي": "إن كاتب اليوميات وهو يكتب عجزه عن الكتابة، يكون قد كتبَ على الأقلّ كيفما كان أثراً: هو يومياته". لكن هناك من يعتقد بتمثيل اليوميات لمرحلة "رحمية" تسبق الولادة، ولادة الأثر الأدبي.