اخر الاخبار

رواية "الأمير سيريبرياني" واحدة من روائع الروائي الروسي ليو تولستوي،و هي رواية تاريخية تحمل في ثناياها الكثير من أحداث التاريخ الروسي و فترة الصراع مع التتر الذين احتلوا روسيا و دمروا موسكو عدة مرات.و بهذا الرؤية الواقعية لا يبتعد تولستوي كثيرا عن روايته الأشهر الحرب و السلام في تاريخيتها و في خطوطها العريضة التي تمثّل كثيرا من خصائص الكاتب النفسية و محيطه الاجتماعي و فلسفته الأخلاقية و مضمونها و أثرها في شخصياته. و قد وُصِف تولستوي على مر العقود بأنه واحد من أعظم الكتاب الروس،و بأنه أسس لمنهج روائي بناه على فلسفة واعية رغم تناقضاتها احيانا و على فردانية و روحية تعكس ما يختلج في نفس الكاتب فقد كان" يعبر في كل لحظة عن شخصيته من خلال فنه و يعبر كل لحظة عن فنه من خلال شخصيته". 

وكان لتجاربه المديدة على مر سنين عمره و سعة اطلاعه على الآداب الأجنبية الذائعة آنذاك و سفره إلى فرنسا و المانيا و سويسرا بل و تنقله داخل روسيا و عمله في السلك العسكري في بداياته -خصوصا و أنه قد رُقّي إلى رتبة ملازم ١٨٥٦ و لكنه استقال لاحقا-اثر كبير في رؤيته الشمولية و طبيعة تفكيره و انعكاسه الشعوري و اللاشعوري في عبارات أبطاله و قد عبّر عن ذلك الشاعر الألماني ريكله بدقة فقال " أن خبرته الهائلة في مجال الطبيعة... هذه الخبرة وضعته وضعا بالغا الروعة بحيث مكنته من التفكير و الكتابة عن وجهة نظر شاملة كلية منطلقا من احساس بالحياة يتغلغل خلالها الموت تغلغلا رهيفا". وإنّ ذلك الضبط و التوازن في مشاهد رواياته كان" موجها نحو وصف الطبقات العليا فقد عبر بأشد الطرق حيوية و تشكيلية عن هذا الطابع"و هذا الضبط كان يرافقه تحول في طبيعة الشخصية التي يرسمها وهو تحول اجتماعي تصاعدي أو تنازلي " بوصف تفصيلي لدقائق الاشياء و نحو تحليل الحياة الروحية و نزع القشور عن النفس".

هذا الوصف والضبط الدقيق للحياة الروسية المتشعبة و المتشابكة التاريخية منها و الاجتماعية-كما سنرى في روايتنا- تعبّر عن عبقري فذ إستطاع عبر نظره الثاقب و تلقّفه الكثير من تفاصيل التاريخ و المجتمع بل والدين و الأسطورة أن يصنع تلك التوازيات المتصلة في مجمل كتاباته و يجعل منها احداثاً روائية تنمو كما تنمو الحياة الطبيعة. وكان وَصْف تولستوي لأحوال الطبقات العليا و حاشية النبلاء و الضباط خصوصا-الذي سنراه واضحا في روايتنا- ثيمة نفسية واضحة فهو كان مدفوعا له نتيجة شعوره الأرستقراطي الذي تجذر في اعماق كينونته حتى إذا أراد التخلص من هذه النبالة الفطرية في أواخر عمره فَشَل و ما استطاع بذلك إلا مجرد مداراة لتناقضات عديدة يقاسيها و يروضها، فتصرعه حيناً و يصرعها في أحيان اخرى و كل هذا مرده إلى أنه "ولد نبيلا و أنه ظل أرستقراطيا في مزاجه حتى بعد اعتناقه قضية الإنسان العادي". مر تولستوي عام ١٨٨٠ و ما بعده بتحولات كبرى في حياته الروحية و هذا الانتقال التدريجي طُبع في أعماله و تغيّرت حتى جمله و تركيبها فهجر" الفقرات المعقدة في الأعمال الاولى الى البساطة الموجزة المصقولة في فتره الثانية" ولم يقتصر هذا التغيير على نوعية الصياغة اللغوية بل و حتى نوعية المعنى قد تغيرت فقد أصبح العنصر التربوي واضحا في أعماله المتأخرة و هو قد" انتقل من التعليق و التوضيح الى الوعظ و الحض و يتحول اتجاهها مما هو زمني و نفساني و اخلاقي الى ما هو ديني". لو شئنا الآن الانتقال من حياة تولستوي و عباراته و اتجاهاته إلى روايته التي هي بالمجمل رواية تستحق أن تختزل لعناصر أهمها طغيان حاكم و شرف و مروءة أمير شجاع عاشق ولهان، و تدور احداث الرواية كلها بين هذين الاثنين، و تفصح عن مثالية أخلاقية لدى بطلنا الأمير " نكيتا سيريبرياني" و طغيان مَرضي و هوس نفسي لدى الحاكم المجنون " يوحنا الرابع" الذي حكم روسيا طويلاً، و حكمه كان عصرا ذهبيا بعد التخلص من هجمات المغول المتوالية فهو عهد عظمة دولة روسيا بعد ان اصبح يوحنا أول ملكا عليها بعد أن كانت دويلات متحاربة و مقسمة و منهكة بفعل حروبها الداخلية و الخارجية. تتوالى أحداث الرواية و تتشعب رويدا رويدا و تبدأ من رجوع بطلنا من جبهة الحرب إلى موسكو بعد خمس سنوات قضاها هناك، و بعدها تبدأ الأحداث حين مر بطلنا بقرية الدب و تحرير اثنين من قادة اللصوص اللذين سيكون لهما دورا محوريا لاحقا في تحرير نكيتا عند سجنه في أواخر الرواية. و بعدها لقاء بطلنا وحبيبته هيلانة الجميلة التي تزوجت من النبيل الثري مورزوف خشية أن يتزوجها امير اخر كانت تكرهه و كان هذا الأخير مقربا من الملك و يدعى " اثناسي فيازيمسكي" الذي سيهجم على بيت النبيل لاحقاً و يحاول سبي هيلانة و لكنه سيموت بعدها بقليل بعد طعنة من بطلنا نكيتا. ويرسم لنا تولستوي الكثير من ملامح حكم يوحنا الرابع و كيف أنه انشأ جهازا خاصا به سماه "رجال الحرس" لملاحقة الخونة و اللصوص- كما يزعم كل طاغية-و هذا الجهاز وصفه تولستوي على لسان أحد شخصياته إلا و هو النبيل مورزوف فقال أن هؤلاء " كلهم من أهل الدعارة و الفساد و الشر و كلهم الا نفر قليل من حثالة القوم"و " كانوا يكنسون الشرف بدل الخيانة و ينهشون المخلصين و الأبرياء من الرعية" و جاء وصف الملك مفصلا على لسانه أيضا " نحن اذا شكونا من فرقة رجال الحرس فإنما نشكو في الحقيقة من الملك نفسه لأنه سبب جميع هذه البلايا و النكبات، فهو سيئ الظن سريع الغضب و قد طُبِع على الشر و الفساد من صغره". وهذه الصفات إن دلّت على شيء فأنما تدل على كثير من صفات الطواغيت الذين تنتابهم الشكوك خوفا من طمع أحدهم من اخذ سلطاتهم و تساورهم الظنون حتى بأقرب الناس اليهم و لعل محاولة الملك يوحنا الرابع قتل إبنه مثالا لهذه الظنون و الشكوك المتواصلة إذ أصبح " يرتاب حتى بأقرب الناس إليه و اعز ذويه و اخصائه و اصبح لكل حركة من حركاتهم و لكل كلمة من كلماتهم أو نظرة من نظراتهم معنى خاص يؤوله و يفسره كما يشاء خاطره الضعف و تريده نفسه المريضة".

ومثل هؤلاء الطغاة يميلون لتقريب من يشابههم في طغيانهم و تمثّل هذا في تقريب حاشية من الجلادين و المنافقين عديمي القيمة و الاخلاق،و لعمري إن في هذا لدروس شتى و  تجليات لكل واقع في كل زمان. وعن عمق الهوس النفسي الذي يمر به مثل هذا الطاغية العنيد انه بنى لنفسه ديراً عظيما في أحدى قرى موسكو و هي قرية الكسندروفا و هذا الدير هو بالأساس قصرا عظيما كان يلجئ إليه الملك للعبادة و الصلاة حين تشتد حالته و تعظم ذنوبه فتراوده الوساوس و الاشباح من كل زاوية و صوب،حتى قالت له حاضنته "إنك تستغفر الله ليلا و تنتهك كل حرمة نهارا" لكنه حتى حين يتعبد كان يعطي أوامر بالقتل و الإعدام و التعذيب و التنكيل بكل صنوفه و ألوانه بحجة " تطهير البلاد من كل خيانة ودسيسة".

و" الذود عن البلاد و الضرب على أيدي الأثَمَة". وكان مقر عبادته هذا فيه كنائس كبيرة عظيمة و اجمل ما فيها " كنيسة السيدة " التي تخلب الأبصار و تبدو الكنيسة كأنها مكسوة كلها بشبكة من الذهب الوهاج.و لكن المفارقة العجيبة أنّ هناك في شوارع هذه القرية مشانق،و لقد سمّاها حرس الملك " الأراجيح. ومما يشار إليه إن لهذا الملك هوسٌ أيضا بالمبارزات و المصارعات"إذ كان لديه عدد وافر من الدببة و غيرها من السباع وكثيرا ما يطلق رجال حاشيته هذه الوحوش على جماهير الشعب طلبا للتسلية و اللهو". ومثل هذه التسلية لها أصل  في العصر الروماني و طغاته كنيرون و تيتوس في ذلك المدرج الشهير الكولوسيوم الذي كان يمثّل قمة الإثارة التي " تخفف من إحساس الجماهير بالبؤس الذي يعانون منه في حياتهم اليومية"و لعمري فإنْ تولستوي حين ذكر هذا الهوس بالمصارعات فإنه يبحث كثيرا في أعماق النفس الطاغية و تجد لها مثالا في التاريخ الغربي . بعد أن ينقلنا تولتسوي من وصف هذا المكان ينتقل للحديث عن حاشية الملك و فسادهم،فهو يتحدث عن بوريس بوغدونوف الذي جسّد تلك الشخصية المتخاذلة البراغماتية الذي كان " يرى دماء الابرياء تتفجر حوله و كأنه لا يرى شيئا و لا يجاهر بمقاومة لئلا يفقد ثقة الملك به و ارتياحه إليه".و جلاده الذي لا يرحم ماليوتا سكوراتوف الذي كان" شرس الاخلاق فظا سيء الظن سريع الانتقام لا يُوزعُه ضمير و لا يردعه رادع"و كان بذلك يمثّل وجه الشر المطلق في حاشية الملك الطاغي  و الأب ليفكي رئيس الدير الذي باع دينه بدنياه حسب تعبير تولستوي و كان هذا يمثل الوجه الديني الفاسد. في منتصف الرواية يذكر تولستوي أنّ طغيان يوحنا الرابع وصل مرحلة هائلة حتى أنه أراد اغتيال ابنه وولي عهده بوشاية من جلاده ماليوتا،و لمّا اخذ الاخير يخطط و ينفذ العملية في مكان بعيدٍ كان يعتبره الناس آنذاك مكان خطيرا يسكنه الجن و الشيطان ألا و هو " غياض الجاهلية"و يروون عنه حكايات غريبة و اساطير عجيبة. و لكن في نهاية الأمر فشلت هذه العملية بعد انْ تدخل الأمير نيكيتا و انقذ ولي العهد إلا أن ما يثير الدهشة هنا أنه و بعد فشل هذه العملية بقيَ ماليوتا على قيد الحياة و لم يمسسه أحد بسوء. هذه التراتبية بهيكليتها و شخوصها إنما تمثّل صورة واضحة لكلّ طاغية... يمكن إسقاطها و مقارنتها مع طغاة اليوم و الأمس و الغد وجميعهم لديهم تلك الروح الشكوكية و النفس الأمّارة بالسوء المليئة بالخوفِ و الحذر المفرط،و إذا كان الملكُ المذكور في بداياته كما رآه نيكيتا دمث الأخلاق حسن السيرة فإنه قد تحوّل لذلك الطاغية الذي لا يسمع الا لهواجسه و أفكاره التي ضللتها بالسواد حاشيته الفاسدة التي أخذت تستأثر بكل شيء.

و لماّ كان الملك مقدساً عند الروس و معتبراً عندهم و هو منصّبٌ من الإله إضافة لكثير مما نقله تولستوي من خرافات و حكايات شعبية حول الملك و قدسيته،اقول لما كان الملك مقدساً فإنه صار طاغيا و إن لم يختر ذلك اي انه صار كذلك رغما عنه نظرا لانه مطلق التصرف لا يحاسبه أحد و لا يسئله فأخذ و مع تقدم الزمن و تغيير الظروف خصوصا ظروف الحرب المضنية صار التوجه نحو الاستماع لهواجس النفس الشريرة مع فساد الحاشية هو ضرورة لا اختيار.و من هذه اللحظة تبدأ تلك السيرة الحسنة  بالتحول تدريجيا لوحش كاسر لا يهمه من الدنيا شيء سوى الحفاظ على مكانته لو كلّفه ذلك قتل اقرب الأشخاص إليه.و هذا هو ديدن الطغاة الذين لا يبالون و لا يهتمون إلا ببقائهم و لكن لسان الحال أنهم لن يبقوا و سيأتيهم الموت عاجلا ام آجلا و مآبهم ذلك اللحد الضيق و صدق المتنبي حين عبّر عن ذلك بدقة :

نَبكي عَلى الدُنيا وَما مِن مَعشَرٍ

جَمَعَتهُمُ الدُنيا فَلَم يَتَفَرَّقوا

أَينَ الأَكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى

كَنَزوا الكُنوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا

مِن كُلِّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بِجَيشِهِ

حَتّى ثَوى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيِّقُ