اخر الاخبار

في الصّفِّ السّادس الابتدائيّ، في درسِ المحفوظات، دخل معلّمُ اللغة العربيّة إلى قاعةِ الدرس، وكتب على اللوحةِ السوداء بالطباشير البيضاء: (الطين)، وكتب تحتَها سبعةَ أبيات أوثمانية؛ أوّلها:

نسيَ الطينُ ساعةً أنّه طينٌ حقيرٌ فصالَ تيهًا وعَربدْ

لا أدري أكانت تلك المرّةَ الأولى التي أسمعُ بها اسمَ إيليّا أبي ماضي، أم إنّي سمعتُ به من قبلُ!  لكنّ (الطين)، على أيّة حال، كانت أوّلَ قصيدةٍ لأبي ماضي أحفظ أبياتًا منها، واستعيد معانيها، ثمّ صحِبتُ أبا ماضي في شعره؛ من قصيدة إلى أخرى، ومن ديوان إلى آخر؛ وقد كان إيليا حاضرًا في منهج المدرسة، وعلى ألسنة المتحدّثين.

 دارت القصيدةُ على معنى مألوف متداول؛ لكنّ الشاعرَ بسطه، وشعّبه، وأتى بأمثلة لإثبات ما يريد منه؛ جاعلًا من القصيدة  صوتَ الفقير المُعدَم يجاهرُ الغنيَّ ذا الكِبر، ويردّ عليه استعلاءه، ويُقيم الحُجّةَ بالشاهدِ والمثل؛ غير أنّه لم يحفِل بصياغة الألفاظ وتهذيبها وإجراء الماء بين عروقها! وهو كذلك في جملة شعره؛ صاحبُ معانٍ وأفكار، فإذا طلبتَ حسنَ اللفظ، وجودةَ الصياغة لم تظفر بشيء!

وبعد مطلعِ قصيدة (الطين) تجيءُ أبياتٌ تشرح وتفصّل:

وكســا الخــزُّ جسمَه فتباهى...

وحوى المـالَ كيسُه فتمرّدْ

يا أخي لا تَمِل بوجهك عنّي...

ما أنا فحمةٌ ولا أنتَ فرقدْ

أنتَ لـــم تصنعِ الحـريرَ الـذي...

تلبــسُ واللــؤلؤَ الــذي تتقلّدْ

ثمّ تزيدُ بالشرحِ والتفصيل وإيراد الأمثلة حتّى تُمِلّ من يَعدُّ الشعرَ لمحًا تكفي إشارته!

على أنّ الشعر، على أيّة حال، يُقرأُ لمعناه، ولإصابته ما يتخلّج في صدور الناس؛ ولقد عرف القدماءُ ضربًا من الشعر؛ مستجادَ المعاني، واهيَ الألفاظ، وجعلوه حيث ينبغي أن يكون؛ أي في مرتبة أدنى ممّا جاد معناه، وحسن لفظه.

ومعاني أبي ماضي التي أدار شعره عليها، في جملتها، شريفةٌ سامية ترمي إلى إشاعة البهجة، ودفعِ السآمة، والإقبال على الحياة؛ يقول في مقطوعة عنوانها "ابسمي":

ابسمي كالوردِ في فجرِ الصَّباءْ... وابسمي كالنجمِ إنْ جنّ المساءْ

وإذا مـا كفّن الثّلـجُ الثرى...

وإذا ما سترَ الغيمُ السماءْ

وتعرّى الرَّوضُ من أزهاره... وتوارى النورُ في كهف الشتاءْ

فاحلُمي بالصيفِ ثمّ ابتسمي... تخلُقي حولكِ زَهرًا وشذاءْ

ومن الوادي نفسه يقول:

قال: السماءُ كئيبةٌ! وتجهّما... قلتُ: ابتسمْ، يكفي التجهّمُ في السّما

قال: الصبا ولّى فقلتُ:له ابتسمْ... لن يُرجعَ الأسفُ الصبا المتصرّما

ولا يبارح هذا المعنى فيُعيده بنحو آخر فيقول:

كنْ بلسمًا إن صار دهرُك أرقما...

وحلاوةً إن صار غيرك علقما

إنّ الحياةَ حبتك كلَّ كنوزها... لا تبخلّن على الحياةِ ببعضِ ما ويبدو أنّ المخاطَبَ بهذه المعاني إنّما هو نفسه وقد نفذ فيها كدرٌ ويأس وكآبة؛ فأراد أن ينصح لها، ويردّ عنها عوادي ما أصابها؛ فظلّ يدير القول، ويقلّبه، وينظر في نواحيه لعلّها تتخفّف شيئًا ممّا بها!

على أنّ أسبابًا من الحيرة، واختلاج اليقين، لا تفتأ تُحيط به، وتزعزع ما نشأ عليه؛ فلا يرى، ما مدّ بصرَه، إلّا طلاسمَ خفيةَ الأسرار، غامضة النواحي؛ فيقول قصيدة وسمها بـ: "الطلاسم"، أخذت مدى بعيدًا يومَ نُشرت:

جئتُ لا أعلمُ من أين، ولكنّي أتيتُ

ولقد أبصرتُ قـدّامي طريقًا فمشيتُ

وسأبقى ماشيا إن شئتُ هذا أم أبيتُ

كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟

لست أدري!

ولقد أقبل القرّاءُ على قصيدة "الطلاسم" بالقراءة، والتأمّل، وبمعاودة النظر في ما قالت! وكان أن ردّ على الشاعر طائفةٌ من الشعراء حيرتَه، وشكَّه؛ باليقين المستقرّ عندهم؛ كمثل محمّد جواد الجزائريّ، وعبد الحميد السماويّ. وإذا كان ردُّ هذين الشاعرين متّسمًا بجزالة اللغة، ومتانة النسج؛ فإنّه ليس له ما لطلاسم أبي ماضي من توقّدِ الحيرة، وقلقِ السؤال! وإنّما الشعر في حرارة الشك، وليس في برد اليقين!

ومن معانيه النافذة في شعره التي لا يفتأ يستعيدها بشتى الألوان؛ أنّ الحياةَ شِرْكة بين الكائنات، وأنْ ليس لكائن أن يستبدَّ فيبتَّ ما بينه وبين غيره، فإن فعل فقد ظلمَ نفسَه، وأودى بكيانه؛ وقد كان ممّا صوّر به ذلك قصيدةُ "التينة الحمقاء"؛ وحكايتُها أنّ تينةً نظرت في شأنها، في أخريات الصيف، وقالت: لأحبسَنَّ فضلي على نفسي، ولا أنيلنَّ أحدًا شيئًا منه! حتّى إذا أتى الشتاء، وانقضى، وأقبل الربيع فازّيّنتِ الأرض، واكتستِ الأشجار بالزهر والثمر، ظلّتِ التينةُ على يبسها كأنّها وتد أو حجر! فأنكر ذلك منها صاحبُ البستان، وأقدم على اجتثاثها!

وتينةٍ غضّةِ الأفنانِ باسقةٍ... قالت لأترابها والصيفُ يُحتضـرُ

بئسَ القضاءُ الذي في الأرض أوجدني... عندي الجمال وغيري عنده النظرُ

لأحبسَنَّ على نفسي عوارفَها...

فا يبيـنُ لها في غيـرها أثرُ...

عاد الربيعُ إلى الدنيـا بموكبه...

فازّيّنتْ واكتستْ بالسندس الشـــجرُ

وظلّتِ التينةُ الحمقاءُ عاريةً...

كأنّها وتدٌ في الأرض أو حجرُ

ولم يُطِقْ صاحبُ البستانِ رؤيتها...

فاجتثّها، فهوت في النار تستـعرُ

ثمّ يأتي بخلاصةِ ما يريد، يختتمُ به القصيدة:

مــن ليس يسـخو بمـا تسخو الحياةُ به... فإنه أحمقٌ بالحِرص ينتحِرُ

على أنّ زهيرَ بنَ أبي سُلمى كان قد قال كلَّ ذلك، من قبلُ، ببيتٍ متين النسج، قويّ الأداء:

ومن يكُ ذا فضلِ فيبخَلْ بفضله... على قومه يُستغنَ عنه ويُذممِ

وكان الشاعر قد رأى في مهجره الأمريكيّ اضطهاد السود، وازدراءهم، وهدر كرامتهم فكتب يصوّر شيئًا من ذلك بقصيدة عنوانها "عبد":

فوقَ الجميّزةِ سِنجابٌ... والأرنبُ تمرحُ في الحقلِ وأنــا صـيّـادٌ وثّاب...

لكـنّ الصيدَ علـــى مثـــــلـــي

محظورٌ إذ إنّي عبد

والديكُ الأبيض في القنِّ... يختالُ كيوسفَ في الحُسنِ

وأنا أتمنّى لو أنّـي... أصطاد الديكَ ولكنّي

لا أقدرُ إذ إنّي عبـــد

وإذا كان معنى القصيدة ساميًا، ينصرُ الإنسانَ على ظالميه؛ فإنّ وزن " الخبب " بإيقاعه المرِح الراقص لا يلائم مبتغى الشاعر، ولا يقع ممّا يريد موقعًا حسنًا، وإنّ اللغة والصياغة تخذلان المقصدَ الرفيع.

وجملةُ الأمر أنّ الشاعر إيليا أبا ماضي غزيرُ المعاني واسع الأفكار، يتوخّى مقاصدَ الشعر النبيلة، وينصر الإنسانَ على الضعف والظلم؛ لكنّ الصياغةَ تقعد به...!