اخر الاخبار

جان جينيه هذا الطفل ضحية خدعة قاسية. إذا قلت للكبار أنهم أبرياء، فإنهم ينزعجون، ولكن يحلو لهم أن يكونوا كذلك. إنها ذريعة، ومناسبة لتحريك المشاعر، وسيلة مفتوحة للاستياء ولكل أشكال الفكر "المتخلف"، وملجأ جاهز تماما لأوقات المحن، طريقة للتأكيد أو الإيحاء بأن المرء كان يستحق أفضل من حياته. وإن أسطورة براءة الطفولة هي شكل منحط وإيجابي وملائم لأسطورة الفردوس المفقود. بصفتهم قديسين وشفعاء وكهنة دين الكتب الصغيرة أو المختصرة، فإن وظيفة الأطفال، بين سنتهم الأولى والعاشرة، هي أنهم يجسدون للكبار حالة النعمة الأصلية. ومن خلال تحولهم إلى كائنات للعبادة، يجد الكثيرون في ذلك مصلحتهم، خاصةً أولئك الذين يتمتعون بمكانة مستقرة، مثل الأبناء الأكبر في العائلات الكبيرة. ولكن هناك بعض الأطفال ممن تتناقض حالتهم الحقيقية مع الفضائل الأسطورية التي زُينوا بها. وكان جان جينيه واحدًا منهم. فقد أقنعوه، كما أقنعوا بقية أطفال القرية، بأن روحه بيضاء؛ وبالتالي، يرى نفسه أبيض. أو بالأحرى، هو لا يرى شيئًا على الإطلاق، لكنه يولي الكبار ثقته على أنهم قادرون على تمييز الثلوج السرية. هذه الكبرياء المتواضعة ستقرر مصيره، فهي تكرس، من دون أن يشك فيها، أولوية الهدف بشأن الفرد؛ ومن هو بالنسبة للآخرين على ما هو عليه. ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أنه يعيش براءته، وأنه يستمتع بها، وهذا ما يجعله سعيدًا. ومن الخطأ أن نرسم طفولة جينيه بألوان داكنة للغاية لأنه كان حريصًا على تحذيرنا بنفسه بأنها كانت أجمل فترة في حياته. ومع ذلك، منذ تلك اللحظة، يعيش في حالة من عدم الارتياح. فالكلمات التقية والورعة التي علموها له لا تنطبق تمامًا على ما هو عليه وما يشعر به. ولكن بما أنه لا يمتلك غيرها، فإنه لا يستطيع أن يصف أو يعرّف شعوره بعدم الارتياح. يبدو أن هذا القلق الذي لا وجه له وغير المتسق، حالة مزاجية لا تذكر، وجينيه لا يدرك ذلك. ومع ذلك فهو يعبر عن حقيقته العميقة المتناقضة لأن يقينه بنفسه يناقض حقيقة اليقين بالنسبة للآخرين. وعلى العموم فهو بريء لكنه على وجه الخصوص يشعر أنه مشتبه به. إنه ملزم، عن طريق الخطأ، على استخدام لغة ليست لغته، وهي لغة خاصة بالأطفال الشرعيين فقط. فجينيه الذي لا يمتلك أمّا أو ميراثا - فكيف يكون بريئا؟ إنه بمجرد وجوده يخل بالنظام الطبيعي والنظام الاجتماعي. لقد تدخلت بينه وبين الجنس البشري مؤسسة بشرية بسجلها وبيروقراطيتها. إنه طفل غير شرعي. لا شك أنه ولد من امرأة، لكن هذا الأصل لم تحتفظ به الذاكرة الاجتماعية: تبين للجميع، وبالتالي، تبين له هو بالذات، وفي وقت مبكر، إن أي رحم معروف لم يحمله: إنه منتج اصطناعي. إنه يدرك على نحو غامض أنه ينتمي قانونًا إلى هيئات إدارية ومختبرات، وبالتالي لا عجب في حقيقة أنه سيشعر لاحقًا بصلات اختيارية مع الإصلاحيات والسجون. كونه مخلوقًا ملفقًا، سيجد حقيقته في المغالطة، كونه ابن المعجزة، سيكون معدنًا أو روحًا، لكنه لا ينتمي إلى المملكة الوسيطة: إلى الحياة. لن يهتم أبدًا بالرياضة أو الملذات الجسدية، لن يكون شرهًا أو حسيًا أبدًا، ليس لديه ثقة في جسده. بسبب عدم معرفته للعلاقة البدائية بالجسد العاري، وبخصوبة امرأة مغشي عيها، ولن يمتلك الشعور أبدًا بتلك الألفة الرقيقة مع جسده، هذا الإهمال الذي يسمح للآخرين أن يستنسخوا في أنفسهم وبأنفسهم العلاقة الحميمة التي لا تنفصم عراها بين الأم والرضيع. يقال إنه "مخالف للطبيعة " لكن بقدر ما يتذكر، إن الطبيعة كانت ضده. نحن الآخرين الذين ننحدر من الجنس البشري لدينا تفويض لمواصلة النوع. أما جينيه، المولود بلا أبوين، فيستعد للموت من دون اسلاف، وستكون حياته الجنسية عقمًا وتوترًا مجردًا.

كيف يتوقع الطفل مصيره؟ ليس بوسعي الكلام، لكن ليس هناك شك في أنه يعيشه مسبقًا. منذ سن مبكرة، كانت هذه الأم المجهولة هي واحدة من الشخصيات الرئيسية في أساطيره. يعشقها ويكرهها ويغمرها بالمداعبات ويسعى إلى الحط من قدرها. وهو لما يزال بعد صغيرا إلى حد، في بلدة ميتراي، عندما يخاطب المستعمرة الإصلاحية كما لو كانت والدته، يتخيل أنها تظهر له "بكل ما يميز المرأة من حنان، ورائحة كريهة مثيرة للغثيان التي تنبعث من فم نصف مفتوح، وحضن عميق يرفعه الانتفاخ، وأخيرا كل ما يجعل الأم أماً ". باختصار، الإلهي الأم، خصبة وكريمة، بل الطبيعة المتجسدة. لاحقًا، في كتبه، تتجسد المرأة كأم فقط، لكن جينيه يتجاهل الفتيات، باستثناء تسليمهن لقتلتهن الوسيمين الذين يذبحونهم سهوا، على العكس من ذلك، فهو يؤثث أعماله بالنساء المذنبات اللواتي مات أطفالهن ويعشن حدادا ظافرا. وإذا ما كنا نلتقي أحيانًا بعاشقات في أربعينيات العمر، فإنهن لا يزلن أمهات، وأمهات سفاح وتدنيس لأن عشاقا شباب يمكن أن يكونوا أبناءهن كانوا يمارسون معهن الجنس. ولكن يبدو أن موضوع "الأم المذنبة" من أصل حديث في عمل جينيه. عندما كان يشير إلى الإصلاحية في الماضي التي كانت تلك المرأة العظيمة شديدة القسوة. في البداية كان هو المذنب. عندما يحاول الطفل تجاوز البيروقراطية التي يبدو أنها تجسيد لأصوله الحقيقية، يجد أن ولادته تتزامن مع بادرة رفض. فقد طردوه في اللحظة التي ولد فيها. ولاحقًا، سيطرده المجتمع بأسره من أحضانه، لكن هذا الرفض الاجتماعي هو بذرة في رفض الأمهات. يظن الطفل أن المرأة قد انتزعته من نفسها، وهي لمّا تزل حية، ملطخة بالدماء، قذفته متدحرجا خارج العالم، ويشعر بأنه منبوذ منذ ولادته، وهو الشخص غير المعشوق، وغير المناسب، والفائض. وغير المرغوب حتى في وجوده، فهو ليس ابن هذه المرأة، بل فضلاتها. وسنرى بأي إصرار، وبأي متعة ماسوشية، سيقارن جينيه لاحقًا نفسه بالقمامة، بنتاج نفايات.  لقد أشار المحللون النفسيون إلى أن الأطفال غالبًا ما يشعرون بأن موت أحد الوالدين يمثل إدانة: فالأم تبتعد حتى لا ترى ابنها فاقدا لطبيعته. إن التخلي عن الطفل يعني إدانة أكثر جذرية! هل هو حكم غامض يعاقبه على ارتكاب جريمة الولادة؟ هل هو حكم نبوي يجعله يدفع مقدما ثمنا عن جرائم المستقبل؟ على كل حال القاضي مجهول والطفل يجهل الاتهامات والقانون لكن الإدانة تهاجم وجوده نفسه وتلتهم هذا الوجود. وتحت هذه البراءة المفترضة التي منحها له الكبار يختبئ شعور بالذنب لا يمكن ادراكه. ولأنه ليس ابن أحد، فهو لا شيء. ونتيجة لخطئه، تسلل اضطراب في نظام العالم الجميل، وبان صدع في مجمل الكينونة.

 ولكونه لا شيء، فهو لا يمتلك شيئًا سواء كان حكم عليه من وجهة نظر امتلاك أو من وجهة نظر الوجود، فهو مخطئ أيضًا. إنه يعلم أنه لا ينتمي بالكامل إلى والديه بالتبني، وأن الإدارة أعارته إليهم، ويمكنها استعادته، وبالتالي لا يمتلكان شيئا يمكن أن ينتمي له. بالنسبة للآخرين، الأشياء دافئة وحيوية ومرنة، ولكنه إذا أمسك بها بين يديه، تموت. يمكنه تسميتها، وعدها، وحتى محاولة استخدامها، لكن غموضها الكثيف يصبح غائبًا، وبالنسبة للآخرين، فهم يوجهون ابتسامتهم المنزلية. إذا، في وقت لاحق، بحضور الشبان الوسيمين الذي يسحرونه، يعيد اكتشاف هذا الانطباع الغريب بالتنحي بعيدًا، فذلك لأن هذا الانطباع لم يغادره أبدًا «في كل مرة كنت فيها على مقربة من كائن مثير للمشاعر، لم يكن ليدي أن تقترب منه سوى مسافة عشرة سنتيمترات، بحيث كانت الأشياء، التي حددتها إيماءاتي، تبدو منتفخة بشكل غير عادي، مزينة بأشعة غير مرئية أو معززة لأصابعي الحساسة في نهاية المطاف بمضعفاتها الميتافيزيقية . » ما هو محظور عليه هو الحيازة المادية للأشياء وستستغرق حياته جهدًا طويلاً لإضفاء الطابع المادي عليها، ليبني في الريح مضاعفها الميتافيزيقي، وهو كل ما يستطيع امتلاكه.

بالطبع، فهو لا يشعر بالجوع ولا بالبرد.  لقد مُنح المأوى والمأكل. ولكن على وجه التحديد: ما يُمنح، هذا الطفل ما يكفي من الهدايا، كل شيء هدية، حتى الهواء الذي يتنفس، ينبغي أن يقول "شكرًا" على شيء. في كل دقيقة توضع هدية بين يده على أساس نزوة من الكرم التي تترك بصمتها عليه وإلى الأبد، وفي كل دقيقة، ينأى جينيه بنفسه قليلاً عن والديه بالتبني. إن الكثير من اللطف يلزمه بأن يدرك أنهم لم يكونوا ملزمين بتبنيه، وإطعامه، والعناية به، وأنهم "لا يدينون له بشيء"، وأنه مدين لهم، وأن لديهم الحرية الكاملة في عدم إعطائه. ما لم يكن حراً في عدم قبوله، باختصار أنه ليس ابنهما. الابن الحقيقي ليس مضطرًا ليشهد لهم على امتنانه، فهو يستمد مصروفه من الأسرة، ومن واجب والده أن يتحمل تربيته. بعد حرمانه من كل شيء بسبب لطف الآخرين، سيعبر جينيه لاحقًا عن كراهيته لكل كرم يُمارس تجاه من هم دون المستوى.