بين الشعر والسينما علاقة تاريخية إن كانت هذه العلاقة هي أخذ الأوّل مصدرا للثاني، أو العكس، أو ما تقدمانه من جمال. وفي هذه الدراسة سأقدم قراءة تحليلية لبعض الصور التي تجمع بين المشهد السينمائي، وبين المشهد الشعري.
مقدمات ضرورية:
1 – نحن امام شاعر له باع طويل في الكتابة الشعرية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو الشاعر الدكتور عارف الساعدي، ونصه الشعري هذا يبحث في القضايا اليومية التي له علاقة حميمية مع البشر، ولنكن دقيقين جدا، ونقول مع الانسانية جمعاء.
2 – لتحليل النص محاور عدة وطوبغرافيته معقدة، ومن هذه المحاور تحليلة وارتباطه بما هو خارجه مثل السياقات الاجتماعية والسياقات الثقافية، ومن هذين السياقين سيخضع نصنا للتحليل.
3 – مظاهر عالم اليوم تزاحم الوقت في الجريان، فهي تتسابق معه، وتريد أن تتخطاها نحو الأفضل، والأحسن. والاختراعات، والمبتكرات، الحديثة في هذا العالم باتت تتسابق فيما بينها أيضا أيهم يصل الأوّل ليخدم البشرية، أو الانسانية، أو يضر بها. ودخول الموبايل في حياة البشر، أو الانسانية، أصبح مثل السحر المؤثر، لأنه غيّر كل شيء في حياتها، حتى البشر أنفسهم قد غيرهم، ولا يهم إلى أي جهة قد تغيروا، إن كان نحو الأفضل، أو كان نحو الأسوأ، لكنهم، في النهاية، قد أصابهم هذا التغيّر، وذلك التبدل في مقتل.
4 - والموبايل في الزمان القديم كان يعد من كماليات المنزل عندما كان على شكل تلفون أرضي، أو موبايل صغير، ويستعمل للاتصال فقط، قبل أن يكون ضروريا، أما وقد حمل وفرة في التطبيقات البرمجية التي تقدم فعاليات كثيرة، ومتنوعة، فقد أصبح مرضا يحتاج إلى علاج ناجع، وصار جهازا خطرا على البشرية جمعاء.
5 - الشاعر الساعدي قدم نصا طويلا بعنوان (قصائد الحاسوب)، وقد قسمه إلى مقاطع شعرية قدمت بعض المسائل اليومية التي لها مساس مع البشر، أو لنقل بصورة دقيقة مع الانسانية، وقد اخترت المقاطع 18، 19، 20، من هذا النص، وهي تتحدث عن التغيرات في حياة الانسانية التي حدثت بدخول الموبايل في حياتهم اليومية.
6 – في هذه المقاطع الشعرية قدم الشاعر الساعدي صور على شكل مشاهد شعرية/ سينمائية مرئية من قبل بصر، وبصيرة القراء لأنها هي في الأساس أستلت من حياتهم اليومية، وسنقدم في السطور القادمة هذه المشاهد.
7 – العاطفة القوية، والصادقة، قد ارتكز عليها الشاعر عند تقديم أفكاره المطروحة في القصيدة على شكل صور مشهدية ذات طبيعة سينمائية تحدث أمام أعيننا، أو بصيرتنا.
8 - ان القضية التي بصدد تحليلها هي المشهدية السينمائية التي في النص إعتمادا على المشهدية الشعرية. حفلت (قصائد الحاسوب)، بالصور المشهدية، التي تعكس دور الموبايل في الحياة اليومية التي تجري أمام أعيننا في كل يوم وساعة ودقيقة، منذ أن دخل هذا الجهاز، الذي لا يعدو حجمه حجم كف يد الانسان، في حياتنا اليومية، فقد اختفتِ الأشياءُ التي كانت ضرورية لاستمرار حياتنا سريعا، وكأن في هذا الجهاز سحر مبين، أو طاقية اختفاء الأشياء، كما في القصص الشعبي. تمتاز هذه القصيدة بالبساطة التي قدمت فيها صورها، البساطة اللغوية والفكرية، وبساطة تأثيث هذه الصورة، وكذلك الوضوح.
والبساطة المعنية هنا هي ضد الغموض غير المسؤول، الغموض المؤدي إلى الهروب، والغموض من أجل الغموض. البساطة هي بمعنى "السهل الممتنع".
* المشهد الأوّل - اختفاء المذياع:
" المذياع المسكين / تسلل في خجلٍ منصرفاً / ودَّعنا في صمتٍ ومضى / مرتبكاً ووديعا".
المذياع هذا الجهاز الذي تزيّن به الغرف في الكثير من الحالات، وبأحجامه المتنوعة، والمتعددة، فقد غادرنا لوجود بديل عنه وهو هذا الجهاز المتنقل، فلا حاجة له لأنه يقدم كل ما يقدمه من أخبار وغناء وتمثيل.
* المشهد الثاني – المصور الفوتوغرافي:
"كنا ندخل خيمته / ونرى العالم تحت زجاج الحائط / صوراً لمشاهير كبارٍ /فناناتٍ ورياضيين وحشد صبايا / والجدران / الجدران امتلات اضواءً / واختنقت صورا ومرايا / يا للسحر ورائحة الايام الكسلى /ماذا حل بهذا الدكان المملوء حكايا / ماذا حل / لكي يخرج ابناء الحي / من الألبوم عرايا".
فقد حمل الموبايل تطبيقات متنوعة وعديدة، تفي بالغرض الذي كان يقدمه المصور الفوتوغرافي، إذ يمكن اتخاذه ككاميرا أو يمكن أن يتخذ ككاميرا فيديوية او فوتوغرافية.
المشهد الثالث – المطبخ العائلي:
" كان المطبخ في زاوية البيت / يغصُّ بكل النسوة / أمَّي كانت تحكي للرز فينضج / أما نحن الصبيان / فندخل هذا المطبخَ / هذا العالمَ".
هذا المطبخ قد تغيرت الممارسات، والأفعال، التي كانت تحدث فيه بدخول هذا الموبايل، فقد ترك كل شيء يحدث فيه، فلا النساء تتحدث لما يطبخنه لينضج، ولا النار تطبخ الخضار، والمواد الصلبة، ليكون غذاء لأهالي البيت.
المشهد الرابع – أربعة أشياء قد تغيرت:
1 - قراءة الصحف:
((هربتْ من بين أيادينا الصحُفُ / والكشْكُ القابعُ في أول شارعنا / انطفأتْ ضحكتُه الحلوةُ)).
الصحف قد غابت قراءتها من قبل الناس، كما غابت هي من بين أيدي القراء.
2 - غيّر هذا الكشك مهنته:
– غبّر الكشك مهنته من بيع الصحف والمجلات إلى بيع النقالات والاكسسوارات والأقراص والألعاب الألكترونية.
3 - العمالُ انصرفوا، والباعة / لا حملوا صحفاً في أيديهم / لا صاحوا أين القرَّاءُ / ولا بالاخبار العاجلة المجنونة قد هتفوا)).
تغير كل شيء في هذا العالم بدخول الموبايل، مثل قراءة الصحف، ومهنة الكشك، والباعة، إذ كان هذا الجهاز يقوم بما كان يقوم به هؤلاء الباعة، فكل شيء يعرض فيه، القديم، والجديد.
المشهد الخامس – الأب والموبايل:
ويمكن عد هذا المشهد الشعري/ السينمائي هو المشهد الذي يلم كل حميمية المشاهد السابقة، فهو الأكثر حميمية في العلاقات الانسانية، إذ ان تجمع شباب المنطقة في ديوان هذا الرجل، وهم يشربون القهوة، ويتحدثون بحميمية قد نال منها الموبايل ففرق هذا الشمل، فما بات هناك أي تجمع للشباب، وهم يسهرون لتداول الحديد بينهم:
((كان أبي "يرحمه الله" / يجلس في ديوانيِّته السمراءْ / كلَّ مساءْ / يتحلَّقُ شيِّابُ الحيِّ حواليهِ / وتدور القهوة بين يديهِ / الدنيا بردٌ / لكنَّ الموقدْ / ممتلىءٌ بدِلالٍ ساخنةٍ وحكاياتْ / نرتشفُ القهوةَ ثانيةً/ (...)/ صادقنا الانهارَ وكدنا أنْ نغرقَ فيها / لولا بعض الضحكاتْ / لولا ….)).
* النتيجة النهائية:
بعد هذه التغيرات التي أحدثها الموبايل في حياة الناس نسأل عن النتيجة التي نصل لها؟
1- "ويركض / يركض للأيام البلهاء ولا يقفُ".
الركض في دروب الحياة المتشعبة، والتي فتحها هذا الموبايل أمام الناس ليحصل على قوت يومه بعد أن عطل هذا الجهاز الكثير من الأعمال، والأشغال.
2- لا شيء يثير العالم / هذا اليوم / الدنيا باردةٌ".
باردة ممن؟
باردة من هذه المشاهد الحياتية التي تحدث كل يوم بلا حرارة، ولا تعب، ولا كد، ولا هم يحزنون كما يقال.
3- "مذ دخل الموبايل قريتنا / مذ راح يصور ضحكتنا / والصورة تمسك لحظتنا / الصورة اسرع من رمش العين / فيما كان مصور غازي / يلتقط الصورة ثم يقول / انتظروني / والصورة تسقط دون يدين".
4 - "المطبخ تهجره النسوةُ / والمطبخ لا يعرفه الأطفالْ / لا يُطبخُ شيءٌ في هذا / البيت / وباردةٌ كلُّ الأكلاتْ / الرزُّ يجيء مع الطلباتْ".
لقد بدأ الناس يهجرون المطبخ لعدم طبخ أي شيء فيه، وذلك لوجود الطلبات السريعة بواسطة الموبايل إذ تأتي سريعا.
5 – انتهاء الجلسات الحميمية:
((أيتها الأيام المنسيِّة / أيتها السنواتْ / الدنيا بردٌ يا ألله / والموقد منطفىءٌ هذي / الليلةَ / والديوانيِّةُ خاليةٌ من شيِّاب الحيْ / من يرجعني / (...)/ منعزلٌ في الصالة وحدي / والقهوة باردةٌ)).
انطفأ بدخول الموبايل كل شيء في ديوانية الأب، لا شباب المنطقة ولا حديث مسامرة ولا موقد ولا قهوة ساخنة.
ما معنى كل ذلك إلى ماذا يشير الشاعر.. فهل معنى ذلك انحدار في ذائقة الناس إذ كانوا يحصلون على كل شيء بصعوبة مما يمنح، الناس، والأشياء، على السواء، زخما من المودة، والحب، والارتياح بعد صعوبة الحصول على هذه الأشياء، أما بوجود الموبايل فكل شيء سهل، ويسير، الحصول عليه؟
ان الهدف الذي سدد عليه الساعدي هو ليس ذم المخترعات الحديثة بقدر ذم ما فعلته تلك المخترعات من تبسيط الحصول على كل شيء مما أدى إلى اختصار العمل، وكذلك الفاعلين، وفي ذلك الطامة الكبرى في أن الناس سيصبحون عاطلين عن العمل، وفي ذلك تفشي البطالة، والمرض والفقر.
فصاحب كشك بيع الصحف سيغادر مهنته والمصور كذلك وصانع الراديو والتلفزيون وصانع مستلزمات الطبخ، والعاملين في دور السينما. ان كل شيء يقدمه الموبايل سيغادر ناسه مهنهم فتكثر البطالة، وتتفشى الأمراض، ويصبح الناس فقراء. وكل ذلك جاء من خلال انتشار هذا الجهاز.
نتساءل: ماذا سيحدث عندما ينزل إلى الأسواق جهاز الاتصال الذي اخترعته شركات الثري الأمريكي "أيلون ماسك" والمسمى “Tesla Pi” هذا العام؟ ومن تطبيقاته نقل عمل الدماغ إلى الآخرين من النظارة فيكون التفكير معلنا لهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت هذه القصائد في جريدة "الشرق الأوسط" بتاريخ 5/ 1/ 2025.