اخر الاخبار

تضعنا مجموعة (املأ الفراغات الماضية) للشاعر (أنمار مردان) إزاء عوالم وتنويعات رؤيوية للتعبير عن كل أشكال الخراب والوجع ويتخذ من دالّة (الفراغ) عنواناً وإشارة لهذا الخراب، ويصبح الفراغ دالاّ شعرياً يحيل إلى مدلولات هذا التشظي والخواء الذي يسكن العالم، وكأن الشاعر يقدّم لوحات شعرية لرثاء ما تبقّى، وهو يجسّد صور الانكسار والضياع وبشاعة الحروب وغربة الذات وغياب الآخر.

وعبر المنحى التحليلي لسيميائية العنوان: فإنّ الشاعر غالباً ما يوّجه خطابه إلى الآخر (املأ)، وإن الماضي مسكون بالفراغ والخراب وهو يستحق التأمّل والسؤال بكلّ أبعاده الوجدانيّة والوجوديّة، ولذا نلحظ نصوص المجموعة تنطوي على إثارة الأسئلة، والتأمّل ورصد الارتكاس بكلّ أبعاده وصوره ودلالاته، ويميل الشاعر إلى لغة انزياحية ويكثر من المجاز ودلالاته الإحالية والإشارية، ووظّف كل العتبات والإشارات والإهداء لتعميق سؤال الألم والخراب فبدت لوحة الغلاف بوصفها عتبة دالّة، بدت وهي تتجسد على شكل لوحة سيريالية، تحيل إلى معنى الفراغ، على الرغم من تزاحم الأشكال لكنّها تبدو مقطّعة الأوصال، وتوحي بالتشظي والضياع وغرابة الصورة والدلالة، ويتناغم المعنى ويتنافذ مع هذه المعطيات عبر دلالة وإشاريّة الإهداء والتركيز على (الرأس) بوصفه دالاً على الفكر والتأمّل والوجع الحقيقي، وكأنّ الشاعر يوحي إلينا بأن مركزية الذات تكمن في الرأس، فهو منبع السؤال الوجودي وهذا المعنى نجده يكرّر مفردة الرأس ودلالتها في أكثر من نص تماهياً مع معنى الإهداء: "لأجلك فقط... تركت أصدقاء السوء، أوّلهم رأسي....!!" (المجموعة: 5). ويمكن الاستدلال على ميل الشاعر للتعاطي مع روح الإختزال وتقديم ومضة على شكل صور وتداعيات من دون فائضيّة كما في نص (لا وقت لإطلاق النار):

في انفجار أو حريق ما / لا تبحث عن رأسك

ولا تحاول أن ترتبّه أو تلملمه / فحين تموت متفحما

من المستحيل أن تقابل الله/ بوجهٍ حسن...!!" (المجموعة: 7). ونجد الاستهلال وقد ارتكز على شبه جملة ودخول في أجواء الحدث (الإنفجار) ثمّ يكرر لا الناهية الجازمة في عدم جدوى البحث كدلالة على الضياع والوجع والفراغ ويكرّر (اللا) في (لا تحاول...) وهي اشارة الى انعدام القدرة المقترنة بانعدام الجدوى، ويختم الشاعر نصّه المختزل بمفارقة ودلالة على الموت المجّاني، واستعارة مفردة (التفحّم) للإشارة الى بشاعة الموت، وطقوسه المعتمة فضلاً على إشارة (الرأس) بوصفه المعادل الوجودي للإنسان بكليّته، فالرأس يستهدف في لحظة الموت وهو الصندوق الأسود الذي يختزن أسرار وهواجس الذات، ويتوّغل الشاعر في لوحاته الشعرية المكتظّة والدالة في تجسيد قبح ودمار الحرب وهو يرصد تفاصيلها وقد احتلّت موضوعة الحرب مساحة أثيرة في مجمل نصوص المجموعة ويتجلّى هذا المعطى في نص موسوم (نصوص):

الساعة تختفي من يد أحد الجنود / الوقت هنا لا معنى له

سأختار نصف شمعة بيضاء/ ودراويش من الموتى

لكي .. يحتطب الجندي رؤياه/ كان لابُدَّ من قراءة كتفه قبل كفّه

فالقاذفة أكلت أحلامه توّاً / وسيميائية ظلّه

التي لا تستطيع الوقوف على الشجر سر هكذا قالها (نائب العريف...) (المجموعة:61).  ويتوغل الشاعر في عوالم الحرب بمعطى واستهلال مباشر من دون الخروج إلى فائض وصفي، ويرمز بضياع واختفاء الساعة من يد الجندي، وهي صورة كنائية للتلاشي الكلّي، والجزء يرمز للكل فضلاً عن سيميائية الساعة ودلالتها على غياب العمر والزمن والوجود ويعزّز هذا المعنى بتكرار إشارة زمنيّة أخرى "الوقت هنا لا معنى له"!!