يسعى الشاعر شاكر لعيبي في كتابه"الشاعر الغريب في المكان الغريب" الى تقديم صورة وصفية للتجربة الشعرية في سبعينيات العراق، من خلال الصور التي يتقن الوانها ليدخلنا معه في سياقات موضوعية وتدقيقات نصية بالنظر لما تضمنته فترة السبعينات من تطور ثقافي ونمو شعري متأثرا بفترة الستينات مع فصل المرحلة التي يعالجها الشاعر ، ولهذه الفترة خصوصيتها وتغيراتها البنيوية على كل الأصعدة ، ومع أن جيل السبعينات انطلق استجابة للشائع المعروف من دون أن تتأثر قناعة لعيبي بخطأ التقسيمات العشرية للأجيال العراقية المعاصرة .
يقدم الكاتب مقدمة للشعر العراقي الحديث كمحاولة لتأسيس رؤية جديدة مستذكرا اسماء تمثل نسق المعرفة الشعرية ودورهما في رصد التغيرات الحاصلة، مع رؤية نقدية لتطور الشكل الشعري وبروز قصائد تدل على انسلاخ جزئي من العروض ومن فكر الماضي وتدل في الوقت نفسه على بقاء نسبي في نمط اللغة الشعرية السابقة .
واذ يجد لعيبي ان موضعة المشكلات التي يطرحها في هذا السياق ليس بالضرورة ان يرتدي الشعر فيها معطفا سياسيا لكنه لا يبرهن بالملموس على ذلك ، إذ يدرك أغلبنا أن لم نقل الأعم أن الشعر أرتدى معطفاً سياسياً في الستينات ، ويمكن أن نثبت ذلك بالاصطفاف السياسي للشعراء كل على وفق رؤاه السياسية وعقيدته .
يذكر لعيبي أن الستينيين وجدوا مرجعا لهم عند الشعر الأمريكي، ولأثبات ذلك يشير في هامشه ص 46 أنه من بين الكثيرين يشير الشاعر هاشــــم شفيق الى ان قصيدة العزاوي ( لنخرج الى العالم وننسفه بالقنابل) هي محاكاة لقصيدة غينسبيرغ (عواء ) .
وأذ يورد تجسيداً للعالم المتخيل المتبني عبر الترجمة قصيدة أنور الغساني والذي يؤكد على تأثير كلمات الترجمة على الشعر .
ويختلف لعيبي مع الشاعر فاضل العزاوي الذي يعتقد ان الستينات كانت مدرسة ادبية او فنية موحدة، بينما يرى لعيبي هذا الأمر في مدينة واحدة انتجت (جماعة كركوك) وهم جزء من الفاعلية الابداعية لثقافة بلد محكوم تاريخيا ولغويا بالتنوع الأثني، وأن حيوية هذه الجماعة لا تدلل على امتدادها الزمني بدليل أن الشاعر سركون بولص تمتع بطاقة ابداعية لا علاقة له بالبيئة التركمانية مع انه ولد وسط كركوك .
يقول شاكر لعيبي (أن اعتبار المنجز الشعري الستيني هو الأضافة الجذرية في الشعر العراقي الذي قاد الى ظلم الشعر العراقي). ولهذا فأن ما انجزه الشعر في الستينات يمثل الأضافة الى الكم الهائل من الأرث الشعري الذي يزخر به العراق وتلك حقاً التفاتة دقيقة في توصيف الواقع، بالنظر لوجود الجذر الشعري أصلاً في أرض العراق، وما شعر الستينات الا الأضافة الجذرية التي وصفها الشاعر لعيبي في دراسته.
اما جيل السبعينات فقد شهد تشظياً لامثيل له وذلك بتقلص التعددية التاريخية في العراق الى محورين متعارضين بالرغم من ظاهرة التحالف في حينها، مما أثر على أنحسار العمل الثقافي وتخلف الأبداع ، وما جاءت به اللغة الهجينة التي ارادتها السلطة في الارتزاق والتهميش وعدم الاعتراف بالآخر والمسير بخطى محسوبة ومرسومة وتحت المراقبة الدقيقة.
وفي سرد تفصيلي لأسماء مبدعين وحركة شعراء ونماذج لم تزل تزهو بين القصائد كما في (الأعمى بشار بن برد) للشاعر العراقي عبد الحسن الشذر على سبيل المثال .
وفي مقاربة ذكية يشير الشاعر لعيبي الى رمز جنوبي باهر مقيم في العاصمة العراقية بغداد تلك هي (منطقة الثورة) المنطقة التي قدمت للعراق العديد من الشعراء والفنانين والمثقفين المتميزين والمبدعين الذين خرجوا من بيوت الفقراء وأزقة الكادحين، والذين كان لهم التأثير الملموس على واقع حركة الثقافة في العراق، وضمن الاستنكارات المضيئة يورد (ثانوية قتيبة للبنين) ودور الشاعر عبد الأمير الورد والناقد شجاع العاني و بدرخان السندي و تركي عبد الأمير وما يكتبه الطلبة حينها، جميل الساعدي ومحمد عبد الكريم .
وفي أستذكارات جميلة يعود لعيبي بالذاكرة الى بدايات الحركة الشعرية وأرهاصاتها الروحية وتمارينها الأنسانية، والتي ولجها لعيبي من أحياء الفقراء وبيوت المهاجرين الى مدينة تتسع لكل الشعر على مدى الزمن المفتوح ، ويعرج ايضاً الى أسماء لمعت في مجال القصة والمسرح ، ويتحدث لعيبي عن تجربة الأقسام الداخلية ودورها كبديل عن المقاهي المفتوحة وتحويلها الى منتديات لجدل ثقافي ثر. كما يتحدث أيضاً عن المحنة التي عاشها جيل السبعينات اثناء الملاحقة والمطاردة والتضييق والأرهاب الذي مارسته السلطة لتحجيم دور المثقف العراقي غاضاً النظر عن السرد التفصيلي لدوره ومكتفياً بالتلميح في مقاربة متواضعة وأصيلة .
لعيبي اورد ذكريات الأمآسي والتحدي والجمر الذي عاشه بالذات وسط ارتطامات سياسية حادة كان فيها الشاعر يحارب بالكلمة سلطة لها الف مخلب حاد يذبح من الوريد الى الوريد ، والتي بدأ فيها المثقف يلوذ بغربة المنافي مرعوبا وملتفتاً خلفه لئلا يصله صليل المخالب حتى في منفاه .
ويمكن أن يشكل الفصل الخاص بالذكريات التي أوردها لعيبي تجسيداً لمعاناة العراقي، وتصوير حقيقي لمعاناة كبيرة مر بها الأنسان في العراق، كان لعيبي أميناً ليس فقط بكل ما مر على باله بل بكل مامرت عليه من أسماء وأماكن وأرهاصات أنسانية سرت داخل روحه التي بدأت تستشعر الخطر وتقتل الشعر والكلمات وتوقف ايام حياته.
ثم يسترسل في الفصل الثالث للحديث عن الهامشي والجوهري في الشعر العراقي المعاصر ليتطرق الى حقيقة ازدهار الشعر في المهاجر، وانفصال تطور هذا النمط الشعري في خلق جيل ادبي متمايز (نلاحظ نتاجات الشاعر المبدع هاشم شفيق من بين أحد عشر أصدار كان بينها واحد فقط في الوطن (قصائد أليفة) بينما أصدر أقمار منزلية وشموس مختلفة ونوافذنا ونوافذهم وأوراق لنشيد ضائع وطيف من خزف وصباح الخير بريطانيا وأعادة نظر ونشاهد صامتة وورد الحناء وغزل عربي جميعها في مهاجره المتنوعة بين بيروت ودمشق وبودابست ولندن.
ويشير لعيبي الى ان الناقدة فاطمة المحسن تعد شعر المنفى هو قبل كل شيء أمتداد لشعر الداخل ، مع أن وجود أنشطار واضح بين ثقافتي وشعر الداخل والخارج.
ويذكر أمثلة شعرية في فترة السبعينات منها الشاعر جلال وردة وهو شاعر يجيد الشعر بالعربية والكردية، والراحل كزار حنتوش الشاعر الموهوب، وهاتف الجنابي وعواد ناصر وصاحب الشاهر وعلي عبد الأمير وبرهان شاوي وأسعد الجبوري وعبد الزهرة زكي ودور مجلة "الثقافة الجديدة" ورئيس تحريرها الشهيد صلاح خالص في دفع الأسماء الشعرية وانبثاقها الى الواجهة، ونفى الكاتب بروز شاعرات في فترة السبعينات.
وعن شهادته عن الشعر العراقي السبعيني في المنفى يعتبر لعيبي المكان خطاً رمادياً في اثيرية الشعر وان المكان انعش القصيدة وحررها من القيود التي تحيط بها في الوطن، وصيرورة المكان اثرت بشكل ملحوظ لما جرى التعود عليه، وتمرد على الاستكانة والاستتباب بالرغم من اعتقاده بأن الثقافة لا تنتعش في أجواء المنفى، الا ان الحقيقة لها علاقة بالمكان، علاقة تبادلية بين طرفين ثقافيين، بدليل أن آفاق لم يكن لها أن تنفتح بدت اكثر انفتاحاً واثراً ملموسا .
ثم يتطرق لعيبي الى الأرث الذي خلفته فترة السبعينات، والتردي العام في الثقافة بتأثير السلطة التي عكست سطوتها وهيمنتها على كل شيء جميل فحولته الى باهت ومشوه.
وفي خضم كتابته عن التجربة السبعينية للشعر والترجمة الى اللغات الأجنبية يعالج الموضوع من زاوية ضيقة حين يسرد لنا مثالاً في ألغاء كل من الشاعر عبد القادر الجنابي والشاعر خالد المعالي بعضهما ، دون أن يتطرق الى المنجز والمساهمة الفعالة لدورهما في توسيع كوة المعرفة الثقافية ومهمة ترجمة الشعر، ويعود ليؤشر على العلاقة الجديدة التي فرضها المكان الغريب على الشاعر الغريب، وتأثير الاستجابة مع الشائع ليطلق لعيبي لفظة شعراء السبعينيات من اجل المناقشة فحسب وليس من اجل التقسيمات العشرية للأجيال العراقية في العراق المعاصر التي لا يقتنع بها مطلقاً .
ويعالج لعيبي في هذا العمل الشعر المنفي قبل السبعينات ومابعده، وأثر المكان والزمان عليه، بالإضافة الى طبيعة الشعر نفسه من دون أن ينسى تأثير ماكنة النظام البائد الضخمة على مجمل حركة الشعر سواء في الداخل أو في المنفى ، ومن أهم مايعالجه لعيبي فكرة صعود شعراء من الريف العراقي أو من المدن النائية والفقيرة في فترة السبعينات وتمكنهم من تبوء صدارة العمل الشعري في السبعينات والأسباب الحقيقية وراء ذلك .
تكمن المعالجات التي اوردها لعيبي في هذا البحث الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر عام 2003 في جديتها وواقعيتها من خلال التجربة الذاتية التي تكاد تتطابق مع تجربة لعيبي، كما أنه يمهد للبحث بتوقعه عدم رضا اغلب من تم الأستشهاد بهم من الشعراء بسبب تصوراتهم غير الأعتيادية عن اعمالهم، لكن ثقته برضا القاريء والجمهور الأوسع التواق لمعرفة الطرق والأسباب والنتائج التي خاضها الشعر في العراق المعاصر بفترة كان الناس سيلمسون التناقض الحاد بين السلطة والحلفاء وبين السلطة والجماهير، وبين الحركة الثقافية التي افلتت من أصابع السلطة وبدت تأخذ دورها الواضح ومن ثم في محاولات القمع الثقافي والتقييد الفكري الذي حل كأسلوب للعمل في السلطة التي نهجت ذلك، وكان شاكر لعيبي شاهداً من شهود تلك الأحداث المتناقضة، بل هو ونتاجه الشعري نتيجة من نتائج الأغتراب والنفي والهجرة التي عاشها جيل من العراقيين في المنافي وهم يحملون أبداعهم وألتزامهم السياسي والأخلاقي والثقافي.