سعدي الحلي (1922-2005) كائن صوتي فطري من طراز مدهش، بدأ ذلك الشاب مشواره الفني منذ منتصف الخمسينيات بترديد الغناء الريفي، مقلداً للأصوات الغنائية المختلفة، وفي مقدمتهم المطرب (عبد الأمير الطويرجاوي)، وقارئ المقام (محمد القبانجي)، وأهتم أيضاً بتقليد الأغاني المصرية، ويمتلك هذا المطرب الشعبي ذو النكهة الفراتية اللافتة، حنجرة دافئة حنونة، مكنته على تشكيل تجربة ذات ملامح خاصة، تبتعد ولو قليلاً عن سواه، واستطاع أن يشق طريقه بما يحوز عليه من موهبة فطرية ذاتية، فضلاً عن معاضدة عوامل موضوعية أخرى، لاسيما مجايليه من الشعراء الذين أسهموا في كتابة نصوص أغانيه، وفي مقدمتهم الشاعر والمغني الراحل (الملا محمد علي القصاب) (1934-2004) الذي صاحبه منذ بداية هذا المشوار، ولم يكن الملا شاعراً فحسب، بل هو يحسن مهارة التوليف بين الألحان الموسيقية المنتقاة من الأغاني المعروفة، وبين ترديد مبتكراته من الكلمات الشعرية المصاغة وفق تلك الترانيم اللحنية، وما قدمه الملا محمد علي من نتاج شعري منثال على السجية الفطرية الى المطرب سعدي الحلي طوال حياته، ينم عن ذائقة حساسة ومخيلة ذات لغز جمالي لذيذ، تجعل المتلقي مأخوذاً برهافة الإحساس ورقة التعبير وسحر المفردات اللغوية الشفيفة التي ينتقيها بعناية فائقة من مرجعيات البيئة المدينية التي ينتمي اليها ويعيش فيها.
انطلق صوت سعدي الحلي في بدايات رحلته مع الغناء أوائل الستينيات، مبتدئاً بثمار التعاون الفني بينه وبين الملا محمد علي القصاب توأمة متوهجة، بالتفنّن عبر التوليد المتراكب في لعبة المواشجة، والمتجلية في نتاج ابداعي تشاركي، يمزج فيه الغناء بين رقة العواطف الفوارة وأحاسيس الروح الشفيفة والصوت المتعالي الرخيم، المتعاشق مع تنهيدات وشهقات وآهات، منبعثة من الفؤاد بأغاني التفجّع التي تمس الوجدان، والمفضية نحو الأُذن بسلاسة قل نظيرها، تسعى الى التساكن مع مزاج السامع بكل ود وانسجام.
وفي الأغلب الأعم تتعالق أغاني سعدي الحلي مع المتلقي الغارق في الحزن -بصيغة وأخرى– حيث تستدعي الصور الذهنية الهاجعة في أعماق الدخيلة، وتسترجع الذكريات الراقدة في بواطن النفس الجوانية، ويتفاوت مقدار التأثر ومنسوب الاستدعاء والاسترجاع، بالاعتماد على تباين مستويات ذائقة المتلقي. كما أن الحزن المهيمن في الكلمات، والطاغي على فضاء أغانيه الساحرة، متسق تماماً مع قسوة الحياة، ولكنه متحرر الى حد كبير من فخاخ المناحة الشائعة في أطوار الأغاني العراقية الحزينة، والمتصلة بموروثات المجتمع الثقافية.
انتقل سعدي الحلي الى بغداد أواخر الستينيات، وانتشر صوته عبر تسجيل (الكاسيت) واحياء حفلات الغناء الخاصة، وكانت أبواب الإذاعة العراقية موصدة بوجهه، ولكن بعد معاناة طويلة جرى تعيينه على ملاك الفرقة الفنية للفنون الشعبية مطلع السبعينيات، وانفتح باتجاه عديد من الشعراء والملحنين، وما عاد الملا محمد علي القصاب لوحده المرجع الوحيد للأشعار المغناة، وقد تنوعت الكلمة واللحن الآتية من منابت إبداعية متعددة.
أسهمت تلك العوامل مجتمعة في أن يتحول سعدي الحلي عبر مخاض طويل الى ظاهرة غنائية، تخلصت من الانصياع لمحددات وأصول الغناء المتعارف عليه، وخرجت عن أطر ما هو مألوف في الساحة الفنية العراقية، حتى أصبح صوته الأكثر تداولاً وانتشاراً في البلد، بفضل مكاتب التسجيلات الصوتية، أفصحت تجربة سعدي الحلي الغنائية بأجلى بيان عن تخليق طور غنائي مديني، تتماهى فيه الصبابة متعاشقة بالأحزان، ويفيض برقة الجمال، وينطوي على عذوبة حسية نادرة.
مارس صوت سعدي الحلي طغيانه على الشاعر موفق محمد بسطوة الذوق الفني الرفيع، وأخذ الاحساس الرفيع يغريه على التواصل مع الأغاني الشجية، فنالت اهتمامه، وصار الشاعر يعيش حالة من الوجد بفعل الإنصات لكلمات هذا المبدع المنغمة وفق موسيقى منسجمة مع فخامة الصوت، ومنسابة بعفوية تنفذ الى القلوب، محرضة ذائقة التلقي. أن هذا الانشداد طبيعي من لدن أي انسان يحوز على مجسات تتحسس الجمال، فما بالك بالشاعر موفق محمد الذي يمتلك حساسية مرهفة، ويعيش وسط الهموم التي تعتصر القلب، ويحمل أحلامه فوق كتفيه، وربما بحثاً عن لحظات تكسر الملل ورتابة الحياة، وتوفر الترويح عن النفس، وتخفف من وطأة الألم في ظل الخوف المتفاقم بسبب ملاحقات ماكنة الاستبداد، واحتدامات حروب النظام المتصاعدة، وهي محاولات لاقتناص كل ما يرمم الذات المنهكة، ويخرجها من أجواء العيش تحت أهوال مما يفوق قدرتها على التحمل.
يمثل طقس الاستماع الى أغاني سعدي الحلي واحداً من ملاذات الشاعر موفق محمد، حيث كان منغمساً على نحو عميق في الولوج اليه تحت جناح السكينة، ومبعث هذا الارتياد يأتي من حالة تذوق جمالي، وصار يصرف وقتاً لأجل سماع صوت سعدي وأشجانه النازفة التي تُغني الكلمات، وربما مجاراة لما في دخيلته، بالانسجام مع مآسي متواصلة تلهب روحه المفجوعة، ولا ننسى في الوقت ذاته ما ينعكس في محمولات كلام الاغنية ولحنها من سلوى للروح وتفريج للنفس المهمومة، ففي لحظات السماع تتعاكس مرايا الإبداع، بين المطرب ومسامع الشاعر، تتشظى الخلجات الوجدانية، وتسري شواظها وسط الروح على نحو متسع تصل الى كل مكان، ترج الروح، تهز المشاعر، وتستفز الذاكرة، وامتدت انتباهات شاعرنا الى تأمل شخصية هذا المطرب الإنسان، الذي طاله الظلم، وشبت الحرائق فيه بسبب نيران الشهرة، ومن جراء شغف الناس، ولما بات معروفاً، استغله النظام الديكتاتوري البائد كأداة للتنفيس عن الاحتقانات، فأصبح فريسة للتندر، وحمل وزر نجاحه عبر انتهاكات متلاحقة، أكلت من سمعته، سيما في تداول النكات الهابطة والسخرية البذيئة، المنطوية على تلفيقات وأكاذيب، والموجهة أصلاً بقصدية تأخذ وظيفة التلهية لأفراد المجتمع، أنكشف دونها ضعف المطرب وهشاشته كإنسان مسالم لا ذنب له، أحس بأعباء الغربة وهو داخل الوطن، واندلقت عليه الأحزان، وفاضت في نفسه بكاء مخنوقاً في المآقي، وحرقة في الحلق، زادتا من نبرة الوجع في أوتار حنجرته.
تنطوي التقاطات موفق محمد على منظور خاص، حوّل هذه الأيقونة الطربية المقرونة بالمتعة الى شخصية مهمة داخل النص، استعادة أغانيه، التي جاءت بعد انقضاء أمد طويل من قلق الانتظار، تنم عن حفاوة بالغة، تنشد عوالم الإبداع الكونية الواحد الى الآخر، بتقارب الغناء من الشعر، مما أسهم في تحفيز قدرات الشاعر الإبداعية، وانعكست رغبة الشاعر في مشاركة الواقع المأزوم مع أشجان المطرب عبر التسامي بفضاء الشعر، مندفعاً نحو الاشتباك في منحى الارتقاء بالذائقة الجمالية. ولما استفاقت إرادة الشاعر، تبدت في صياغات رؤيوية نابعة من الوجدان، وانصبت هواجسه وراء تكوين تصور يخرج سعدي من أسر المعنى المغاير للحقيقة، الذي وسم به بهتاناً، فيقوم باستيلاد الوجه الناصع لهذا المبدع ذو الإحساس الإنساني المفرط، خارج مؤثرات الضجيج، وتكشفت رحلة ارتياده في افاق الشعر عن مغامرة، مزدهرة بنص تم انجازه سنة 2015، حافل بإضمامة شعرية مطولة مدافة بانفعالات الشاعر حول أحداث ومجريات الواقع، المنطوية على تناص مع أغاني سعدي الحلي، وجاء بعنوان (سعدي الحلي.. في جنائنه).
يعبر موفق محمد عن ذروة الإحساس والشعور بتكثيف المواجع وتلوين الأحزان التي صورت مشاهد تراجيدية، مستلة من ماضي وحاضر الوطن، تشكلت عبر تناص مع الغناء الشعبي الطافح بحسرات الوله ولواعج الحزن، والذي يلامس العواطف، وعلى وجه الخصوص فتح الشاعر نوافذ التماهي مع التماعات من أغاني المطرب سعدي الحلي، وذلك بتسكين شذرات مما فاضت به حنجرة المغني بين ثنايا النص الشعري، وتقديمها بطعم خاص، منسابة وفق سياقات مغايرة، وطفت متعالقة على السطح مع علامات متجددة، مبدية وظيفة جديدة، تزيد جمالاً متناغماً على انفعالات الشاعر، وتتوالى ولادات الشعر بتواشج الأدوات الفنية، وبما ينزفه من كلمات مفعمة بالإدهاش والإثارة والاستفزاز واللامعقول والتلقائية، ودافقة بمعاني الحياة النبيلة طامحاً ببقائها مستمرة، نشداناً الى رسم صورة مستقبلية لوطن معافى.